30ـ واقع إنتاج الإناث في العلوم الأدبية

تميل طبائع كثير من النساء نحو العلوم الأدبية أكثر من غيرها من العلوم حتى وُجد من بينهن من تُجيد اللغة والنحو، وتعلِّم الأدب للنساء، إلا أن إنتاجهن في علوم اللغة العربية، وآدابها يكاد يكون معدوماً، كما أن درجة بروزهن في هذا المجال لا تُؤهلهن لأن يذكرن ضمن تراجم البارزين من فحول النحاة والأدباء، فلا تُذكر منهن واحدة، وربما ذكر بعضهم ثلاثاً من النساء، ولكن في مقابل (2209) من النحويين واللغويين الرجال، حتى إن دراسة حديثة شاملة لأدباء العرب من مسلمين وغيرهم خلال الفترة من 1800م -1925م: أوردت أسماء (15) أديبة فقط مقابل (1737) من الأدباء الرجال.

أما قرض الشعر وإنشاده فهو أعظم مجالات التفوق النسائي على الإطلاق، فقد ذُكر جمعٌ منهن بالتفوق الشعري، والقدرة على نظمه، إلا أن الغريب في شأنهن أن من ذُكر أن لها ديواناً شعرياً مستقلاً من بين دواوين الرجال لا يتجاوزن أصابع اليدين؛ ففي مقابل (254) ديواناً شعرياً لشعراء في القديم والحديث لم يُذكر سوى أربع نسوة بدواوين شعرية، إضافة إلى أن غالب إنتاجهن الشعري إنما نقله الرجال في مؤلفاتهم، حتى إن بعضهم ألَّف كتباً مستقلة لأشعار النساء، وكثيراً ما تُنسب أبيات شعرية إلى مجهولات من النساء، بل ربما وضع بعض الشعراء الأبيات -ولسبب ما- ينسبونها إلى النساء.

ورغم براعة كثير منهن في قرض الشعر وحفظه، ورغم كثرة عددهن، واهتمام بعض الولاة بأشعارهن، ومناظراتهن الأدبية: فإنهن عند ذكر تراجم فحول الشعراء من المتقدمين لا يكدن يُذكرن إلا عرضاً، حيث تتراوح نسبة عددهن المئوية إلى الذكور من الشعراء ما بين (0.3%) و (2.7%)، وربما ارتفعت إلى (2.9%)، حتى إن إحدى الدراسات الموسوعية للشعر العربي لم تذكر منهن سوى عشر نسوة، وربما لم يذكر بعضهم سوى الخنساء رضي الله عنها، أو رابعة العدوية، وعند استعراض المتقدمات منهن والمعاصرات فإن نسبتهن ترتفع إلى (7%)، وربما وصلت في إحدى الدراسات إلى (8.5%) كأقصى نسبة، وربما انخفضت في بعض الدراسات إلى (4.5%)، وإلى (1.4%)، وربما لم يذكر بعضهم من الشاعرات المتأخرات والمعاصرات إلا واحدة فقط.

إن هذا الوصف لإنتاج الإناث الشعري يدل على أن هناك فرقاً بين مجرَّد نظم شعر وإنشاده، وبين إجادة الشعر وإتقانه، فإن إنشاد الشعر كان أمراً معروفاً ومشاعاً عند عامة العرب، وهو جزء من طبيعتهم الفطرية، لا يكاد يمتنع عنه أحد من الرجال أو النساء، إلا أنه لا يُوصف بالشعر عند العرب إلا من تمكَّن وأكثر منه، وتخطَّى الحدود، وتصرَّف في فنونه ومعانيه، وهذا نادر في النساء، "وقلَّما تقدَّمت المرأة عندهم في باب من أبواب الكلام أو العمل إلا كانت غريبة نادرة، وهي سنة طبيعية في التاريخ، انتفعت بها النساء الشاعرات إلى يومنا هذا؛ فإن الشيء الغريب لو لم يكن له قيمة لكفى بغرابته قيمة فيه"، وفي هذا يقول ابن جزي الغرناطي: "قد يصدر من بعضهن من بلاغة الخطاب، وبراعة الجواب، ودلائل النبل، وشواهد العقل: ما يُستغرب أمره، ويُخلَّد في الصحائف ذكره".

فليس كل من قال الشعر كان شاعراً، ولعل مما يوضح هذه المسألة حال السيدة عائشة رضي الله عنها، فرغم علمها بالطب، وحفظها للشعر، حيث كانت تحفظ عن "لبيد" وحده نحواً من ألف بيت، وتروي من نظم الشعراء ما يعجز عن حفظه كثير من الرجال، حتى قيل بتفوقها على الخنساء، رغم هذا كله لم توصف بأنها طبيبة، أو أنها شاعرة؛ بل إن الخنساء نفسَها التي أطبق الناس على تفوقها الشعري في الرثاء خاصة، فهي صاحبة أكبر ديوان لشاعرة جاهلية، كانت محطَّ اهتمام الأدباء والنُّقَّاد في القديم والحديث، وهي بإجماع علماء الشعر: أشعر امرأة في التاريخ، ومع كلِّ هذا لا تُعدُّ أبياتها المتفرقة ومراثيها شيئاً عظيماً أمام غيرها من فحول رجال الشعر الذين لم ينظموا في المراثي إلا عرضاً، بل إن بعضهم قدَّم عليها الشاعرة ليلى الأخيلية.

ومع ما يتميز به شعر الخنساء من العاطفة الصادقة، وعدم التكلف، والفصاحة، وجودة البيان: فإنه -مع ذلك- محصور في زمن الجاهلية في رثائها أخاها صخراً، فهي لا تُعدُّ من المخضرمات رغم أنها أدركت الإسلام، ولقيت رسول الله r، إلى جانب قِصرَ نَفَسها، وضعف استرسالها؛ فإن أطول قصائدها لا يتجاوز خمسة وثلاثين بيتاً، فقد غلب على شعرها الأبيات المقطعة، والقصائد القصيرة، إضافة إلى أن شعرها عاطفي بحت, ومحصور في صور ومعاني وتعابير محدودة, لا يرتفع بها الفكر إلى المعاني الحكمية، التي توجد مثلاً في شعر لبيد في رثائه أخاه؛ ولهذا ما زال الخلاف قائماً بين النقاد: هل أضافت الخنساء "للمرثية أشكالاً جديدة، أو أنها لم تُضف جديداً؟".

ولعل تفوق النساء في المراثي يأتي من جهة صدق العبارة، وعمق الانفعال؛ "لأنهن خلقن ضعيفات الإحساس والعواطف، فارغات القلوب" وليس من جهة سبك العبارات، وقوتها، وجودة الاسترسال، فهذا خاص بالشعراء من الرجال في الغالب، فقد ارتبط شعر المرأة بعواطفها وأحزانها وآلامها، وحياتها الاجتماعية، ولولا المصائب ما أتقنت المرأة الشعر, فقد غلب على مضامين أشعارهن الحزن والرثاء والمدح والذم وطلب الثأر, فما أجاد الشعر إلا الثكلات المؤبِّنات الموتورات, حين انصرفن بالكلية إلى هذا النوع من الشعر, كأمثال الخنساء والخرْنق بنت بدر هِفَّان، والفارعة بنت طريف الشيبانية ونحوهن، وإذا خرج شعرهن عن هذه المضامين العاطفية كان ظرْفاً لا يتعدَّى ذلك كثيراً، وربما حاكين أشعار الرجال؛ إذ لا يوجد في أشعارهن سمات أنثوية خاصة بهن، تميز شعرهن عن أشعار الرجال، وهذا الوصف في الجملة يدل على ضعف ومحدودية في شعرهن، حتى قال الشاعر بشَّار بن برْد البصري الضرير (ت167هـ) واصفاً شعرهن، ومستثنياً من ذلك الخنساء: "لم تقل امرأة شعراً إلا ظهر الضعف فيه"، وأعجب من هذا ألا يكون للمرأة المسلمة المعاصرة مشاركة جادة في شعر الدعوة الإسلامية، رغم انتشاره, وتوسع الدعاة الإسلاميين فيه, وحاجة الأمة إليه، فقد كتب أحد الباحثين المعاصرين يقول: "لقد بحثت في كثير من المراجع التي تتناول شعر الدعوة الإسلامية، وشعراءَها المعاصرين, فلم أجد للمرأة المسلمة الداعية أيَّ مشاركة بارزة في هذا المجال, إلا امرأة واحدة فقط".

وأما في جودة الاسترسال، وطول النفَس في قرض الشعر, والصبر عليه، فقد قصُرت أشعار النساء في القديم والحديث عن هذه المرتبة، فما يُنسب إليهن من الشعر قليل, فقد تقول إحداهن البيت والبيتين، أو المقطعات الوجيزة، أو القصيدة القصيرة، حتى إن ابن طيفور جمع أبيات (121) شاعرة في (52) صفحة فقط, وجمع السيوطي أبيات (40) شاعرة في (70) صفحة, وسُجِّل لرابعة العدوية فقط (53) بيتاً شعرياً, بل وحتى الخنساء إمامة النساء في هذا الفن لم ينفك شعرها عن هذا القصور؛ فقد غلب على قصائدها القِصَر، حتى إن أطول قصيدة في ديوانها لا تتجاوز (35) بيتاً, وهذا الإخفاق في ضعف الاسترسال قد لحق حتى شاعرات الغرب: فهذه إملي ديكنسون (ت1886م), التي تُعد من أفضل وأرفع الشاعرات الأمريكيات، التي نظمت نحواً من ثمانمائة قصيدة، تعد من عيون الشعر الأمريكي, ومع ذلك دخل عليها النقص من جهة ضعف نفَسها في الاسترسال, مما أدَّى إلى قِصَرٍ في أبيات قصائدها.

وأعجب من هذا أن تنحصر جائزة نوبل للآداب عبر تسعين عاماً في خمس من النساء فقط, مقابل ثمانين رجلاً, رغم أن العلوم الأدبية من ألصق المعارف بالمرأة وطباعها الأنثوية.

إن تفوق بعض النساء في نظم الشعر أمرٌ مقبول مالم يُقابل بنظم الرجال فإن إجادتهن للشعر نادرة في أدب الأمم عامة، وبروز بعضهن في هذا المجال على بعض الرجال لا يعدو أن يكون شذوذاً، خاصة إذا علم أن أساس الشعر الغزل, ومن المعلوم أن الغزل في العادة من صناعة الرجال، "والحياة البشرية منذ دبَّت على الأرض والرجل يسعى إلى رضا المرأة والتغزل بها"، إلى جانب أن نظم القصائد الطويلة يحتاج إلى عزم وصبر يندر وجودهما في النساء, لهذا يتوجهن إلى المقطعات من الشعر, حتى إن بعضهم لم ينسب إليهن في مجال الرثاء ديواناً مستقلاً, رغم أنه من ألصق مجالات الشعر بهن.

ومع كل ما نُسب إلى النساء من التفوق في نظم الشعر فإنه يخبو ضوؤه حين يُقابل بنظم الرجال، فهن بالضرورة دون الرجال في هذه الصناعة, "فما قطُّ عُرفت شاعرة أخملت شعراء دهرها، ولا كاتبة غطَّت على كتَّاب زمنها، ولا عُرف مثل هذا في الأدب، ولا في الرواية، ولا في شيء من هذه الصناعة بوسائلها وأسبابها، فكانت الطبيعة نفسها حجاباً مضروباً على النساء, قبل الحجاب الذي ضربه الرجال عليهن"، ولهذا لا يُذكرن ضمن طبقات شعراء الأمصار إلا عرضاً, وما تكاد تنبغ إحداهن في الشعر حتى يغطي على نبوغها مائة رجل من الشعراء؛ إذ لا يعدو شعرهن في الغالب حدَّ الظُّرف، وما استحقت وصف شاعرة إلا معدودات من النساء, ولهذا لُوحظ "أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء؛ إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا, وذهب المذاهب كلَّها في فنون الكلام وبلاغته" فما تلبث أن تبرز إحداهن في صناعة شعرية حتى تفقد مكانها بين الشعراء, فهذه الأميرة علية بنت المهدي، أخت الرشيد والهادي، التي تُعدُّ أشعر الشاعرات العباسيات، ولكنها مع ذلك "شاعرة في نطاق أنوثتها؛ بحيث إذا ما قُورن شعرها بشعر الشعراء من الرجال، فربما خبا ضوؤه، وخفت صوته"؛ ولهذا ليس بين شعراء المعلَّقات السبع الطوال المشهورة امرأة واحدة.

وفي العموم فإن نظم الشعر وحفظه لا يُعدُّ من مستحبات الشريعة؛ فقد نزَّه الله تعالى عنه نبيَّه r، فإخفاق النساء فيه إذا قوبلن بالرجال لا يُعدُّ إخفاقاً ممقوتاً يؤاخذن عليه, بل ربما كان ترفُع المرأة الحرة عنه خيراً لها، ولا سيما حين يفقد الشعر أهدافه النبيلة، ومضامينه الرفيعة, فإنه ما فسد الشعر في العصر العباسي بالمضامين الهابطة, والأهداف القاصرة، حتى دخله النساء من الجواري والقيان والغانيات، حتى كانت سمة ظاهرة في ذلك العصر، مما دفع الشعراء من الرجال إلى التندُّر والتفكُّه بهن، والسخرية منهن, حتى هانت المرأة على كثير من الشعراء, فتجرَّأوا عليها بقبيح القول، حتى وصفوها بما لا يجوز ذكره, من الألفاظ الساقطة، والمعاني القبيحة، وهكذا المرأة -دائماً- حين تنزل من موقعها الشامخ إلى وسط الرجال في ميادينهم: تُصبح محطَّ استهزائهم وتندُّرهم وتفكُّههم.