إن التزام الفتاة بتعلُّم المعارف النافعة لا يُعدُّ هدفاً في حد ذاته حتى تجمع إلى هذه المعارف العمل بها في سلوك واقعي، فإن "المعرفة من أجل المعرفة أصل من ضروب العبث، وشعار لا معنى له في التربية، والنزعة الفكرية المجرَّدة حماقة، حين تفصل المعرفة عن الحياة"، والعمل الذي يقوم به المكلَّف - أياً كان هذا العمل - لا يحق أن يكون عبثاً أو لهواً؛ بل لا بد أن يُحاط بالتكاليف الشرعية، "فإن النظرية الإسلامية لا تقبل بجريان التفكير من أجل إيجاد التفكير، فالفكر الذي لا غاية له: فكر عابث حتى وإن كان مجراه صحيحاً، وهو كذلك مرفوض إذا خلا من التفكير في التغيير الإيجابي في نفوس الأفراد وأحوالهم", يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "ليس العلم ما حُفظ، العلم ما نفع"، فالمعرفة في التصور الإسلامي لا بد أن تسير مع العمل، فإذا انفصلا: سقطت قيمة المعرفة، وحلَّ الفساد الفكري الذي يصعب معه العلاج.
إن تلقي الإنسان للمعارف - صحيحة كانت أو باطلة - عن طريق الحواس: لا تعدو أن تكون صوراً ذهنية هشَّة، قابلة للاستقرار أو الزَّوال، ولا تصبح راسخة كشأن العقائد إلا بنزولها - بواسطة التربية ووسائلها المختلفة - من موقعها الذهني إلى مستقرها القلبي، وعندها تصل المعرفة إلى درجة يقينية يمكن أن تلتزم بها جوارح الإنسان في صورة سلوك واقعي عملي، فمهما كانت المعارف شريفة، والمعلومات صحيحة فإنها تفقد قيمتها الحقيقية بدون العمل والتطبيق، يقول الغزالي: "لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل", والتصور الإسلامي يعتبر العلم بلا عمل نوعاً من مسالك المنافقين؛ فإن من المتعذِّر على المتلبِّس بالنفاق أن يجمع بين العلم والعمل كما قال رسول الله r : "خصلتان لا تجتمعان في منافق حسن سمت، وفقه في الدين".
وعلى هذا النهج المتكامل المترابط بين المعرفة والسلوك كانت طريقة السلف في الزمن الأول، فهذه أم علقمة رحمها الله تقول: "رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة، وعليها خمار رقيق يشفُّ عن جيبها: فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ ثم دعت بخمار فكستها", فحجَّت عائشة الفتاة بالعلم، وبرَّرت خشونة مسلكها التربوي معها بشيوع المعرفة بسورة النور وأحكامها، فلم تقبل من بنت أخيها مجرَّد المعرفة بالأحكام دون أن يكون لهذه الأحكام واقعها التطبيقي في سلوكها العملي.