إن من مقومات صلاح المنهج التعليمي ربطه بين النظرية والتطبيق, بحيث يكون منهجاً واقعياً قابلاً للتطبيق والممارسة في واقع الحياة, فإن الاتفاق قائم عند خبراء التربية المعاصرين على أن: "دور التعليم ينبغي أن يكون تزويد الطالب بالمعرفة القابلة للاستعمال والتطبيق في الحياة العملية التي يُعايشها في كل يوم", إلا أن الواقع التربوي المعاصر يشهد بعجز منهج المؤسسة التعليمية عن تزويد المتعلم بالمهارات والمعلومات التي يحتاجها في واقع الحياة, فلا يتعدَّى دورها تزويد الطالب بما يُؤهله للنجاح في الاختبارات التقويمية, دون ما يُؤهله للإنتاج النافع في الحياة الاجتماعية التي يعيشها, فواقع المتخرجين من جميع المراحل التعليمية وحتى الجامعية لديهم قصور بيِّن, وهم في العموم دون المستوى المأمول, وواقع العالم الإسلامي, وطبيعة المشكلات التي يعاني منها: تدل بوضوح على الإخفاق الكبير الذي مُنيت به المؤسسة التعليمية ومناهجها المطبَّقة, حتى لكأنه مصداق قوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: "... أن يقل العلم, ويظهر الجهل ...", وكل ذلك رغم وفرة المعلومات, وانتشار المعارف.
والفتاة المسلمة المعاصرة لا يمكن أن تنجو من التأثر العام بهذا القصور الواقعي؛ بل ربما نالت منه النصيب الأوفر, فمنذ بدايات التعليم والواقع يُشير بأنهن لا يجدن في مناهج التعليم العام ما يلبي حاجتهن الخاصة, أو يساعدهن على مواجهة متطلبات الحياة الاجتماعية بصورة جيدة؛ لكون طاقاتهن التحصيلية مبعثرة في معارف وعلوم لا تخدم واقع حياتهن العملية, ولا تلبي حاجاتهن المعرفية.
إن هذا الوضع التربوي القاصر بالخبرات التعليمية عن واقع الحياة: لا يمكن أن يخرِّج إنساناً سوي الشخصية, مستقر النفس, متوافقاً مع مجتمعه؛ لأن المتعلم لا تنمو شخصيته بصورة متكاملة حتى يكون قادراً على مواجهة أعباء الحياة اليومية بالقدر الكافي لتحقيق النجاح؛ ولهذا فقد انشغل جمعٌ من خبراء التربية الإسلامية بوضع معالم, وتصورات, ومقترحات لطبيعة مناهج التعليم العام للجنسين, بما يكفل تحقيق أهداف التربية الإسلامية من جهة, ويلبي -واقعياً وعملياً- حاجات الذكور والإناث المعرفية من جهة أخرى.
إن على منهج التربية حتى يكون إسلامياً, ومقبولاً اجتماعياً, وقابلاً للتطبيق في واقع الحياة العملية للفتيات: أن يراعي في بنائه مجموعة من القضايا التربوية المهمة:
منها: تعريف الفتيات بفروض الاعتقاد, وبيان نظرة الإسلام إلى الكون والإنسان والحياة, مع تعريفهن بعلاقتهن العضوية بالكون من حولهن؛ لأنهن في هذا السن يتساءلن عادة عن هذه القضايا, وموقعهن منها, وربما لازم بعضهن الشك, في بعض هذه المسائل, فتعريفهن بهذه الفروض يلبي عندهن حاجة نفسية, وعقلية ملحَّة، إلا أن من المفضَّل أن تُعلَّم الفتاة مسائل العقيدة والفروض المهمة في سن المراهقة قُبيل البلوغ؛ حتى لا تقع عليها التكاليف الشرعية إلا وقد تمكَّنت هذه المفاهيم من قلبها, وسكنت إليها نفسُها, وذلَّت بممارستها جوارحها.
ومنها: ربط المعارف الدينية بواقع حياة الفتيات, بحيث يشعرن أن الدين مرتبط بالحياة الواقعية, ومتجلٍّ في سلوك الفرد, وعلاقته بخالقه, ومعاملته مع أفراد مجتمعه, ويصور للمكلَّف ما ينبغي "أن يكون عليه الفرد في دنياه, وإلى ما سيؤول إليه أمره في أخراه", فلا يكون منهج التربية مجرَّد تعليم للدين, لا واقع له, يصرف المتعلمين عنه بصورة غير مباشرة؛ بل ينبغي أن يكون تدريباً على التطبيق والممارسة الحياتية؛ حتى يكون الدين هو السلوك والصورة الأصلية في الحياة اليومية, فيصبح له مغزىً وظيفياً مرتبطاً بواقع الفرد, ومعاملاته الشخصية والاجتماعية.
ومنها: تزويد الفتيات بالمعلومات النسائية الخاصة، فإنها مجال اهتماماتهن, ومحور كثير من علومهن ونقولهن منذ عهد السلف, وغالب مجالات استفساراتهن, حتى لكأن هذه المسائل الخاصة أصبحت طابعاً على معارفهن, حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في وصف عظم اهتمام الأنصاريات رضي الله عنهن بعلوم النساء الخاصة: "نعْم النساء نساء الأنصار, لم يكن ليمنعهن الحياء أن يتفقَّهن في الدين", فلا بد للمنهج التعليمي أن يشبع في الفتيات هذه الرغبة العلمية الفطرية, بصورة عملية متدرجة, تربط بين المعلومة العلمية والحاجة الواقعية برباط وثيق, يشعر معه الفتيات بفقرهن إلى المنهج لإشباع حاجاتهن الخاصة, بعيداً عن مصادر المعلومات الاجتماعية المشبوهة.
ومنها: التركيز العلمي على العلوم الضرورية -فروض العين- فتُعلَّم الفتاة من العلوم والمعارف المختلفة ما تحتاج إليه, وما تحقق به القدر الكافي من الثقافة النسوية, التي تؤهلها لدورها الاجتماعي التربوي دون توسع مفرط, فإن العبرة بنوع العلوم, ومدى الحاجة إليها وليس بكثرتها, "ففي العصر الحاضر يجب أن تكون العبرة لاختيار ما يُعلم لا لحجمه، فالمادة العلمية كثيرة وغزيرة, ولا ضرورة لإرهاق المتعلم بها كلها؛ بل يكفيه منها الأسس والمبادئ القائدة إلى تعلم ذاتي أوسع وأعمق".
ومنها: إشباع المنهج لميول الفتيات العلمية المختلفة, وذلك بعد أن يكون قد استكمل تزويدهن بالمعارف الضرورية, بحيث يعمل المنهج -بصورة غير إلزامية- على إشباع حاجاتهن, ورغباتهن إلى المعارف والعلوم المتنوعة المباحة, ضمن نظام منهجي مرن, يحقق لهن المعرفة الصالحة التي يرغبن فيها من خلال دوافعهن, وميولهن الذاتية, يقول ابن حزم رحمه الله: "من مال بطبعه إلى علم ما -وإن كان أدنى من غيره- فلا يشغلها بسواه".