يتأثر الإنسان -كبيراً كان أو صغيراً- بالأصدقاء والقرناء، ولا يمكن أن يُظن عدم حدوث هذا التأثر، ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام واصفاً أثر الجليس الصالح، وأثر الجليس السوء: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)), ففي كلا الحالين يتأثر الجليس بجليسه، إما بالسوء، وحرق الثياب، وأقله الريح الخبيثة، وإما بالخير والفائدة والعطر الحسن.
ولما كان تأثيرالصاحب والجليس بهذه الدرجة، فإن ثأثيرالأطفال بعضهم في بعض أكثر تحققاً ومضاء، إذ " تعتبر جماعات الرفاق من أشد الجماعات تأثيراً على تكوين أنماط السلوك الأساسية لدى الطفل "، وقد تفطن العلماء المسلمون الأوائل لهذه القضية، فحذروا ونبهوا، فهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله يقول: " أما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد … وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء, وليحذر من مصاحبة الجهال والسفهاء، فإن الطبع لص"، وينقل رحمه الله عن إبراهيم الحربي قوله: "أول فساد الصبيان بعضهم من بعض".
وقد أشار الإمام الغزالي رحمه الله إلى أن تكوين الأخلاق الحسنة يمكن أن يكون عن طريق مصاحبة الأخيار والصالحين، وكذلك الأخلاق السيئة، فقال رحمه الله "الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً", ويذهب رحمه الله إلى أبعد من هذا، ولا يكتفي بالتحذير من قرناء السوء فقط؛ بل حتى من المترفهين والمتنعمين من الصبيان، فيقول: "ويحفظ الصبي من الصبيان الذين عُوِّدوا التنعُّم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة".
ولا يقصد من هذا التحذير والتنبيه عزل الولد مطلقاً عن قرنائه من الأطفال، والحجر عليه للحفاظ على أخلاقه وسلوكه، فهذا النهج المستبعد الوقوع يعد سلبية وتشاؤماً؛ إذ إن وجود الطفل-في بعض الأوقات- في محيط من الأطفال يعد من العوامل الأساسية والهامة في التربية؛ إذ يتعلم الولد من خلال الجماعة كيف يعامل غيره، ويتدرب على تقديم التضحيات المختلفة مسايرة لإرادة الجماعة، وليكون مقبولاً عندها، وهذه الفوائد التربوية وغيرها مما يتحصله الولد عن طريق أصدقائه وقرنائه، لايمكن أن يتحصل عليه بدونهم، فيكون القصد إذاً من هذا التحذير هو حفظ الولد من قرناء السوء الذين يضرونه ويؤذونه، وفي الجانب الآخر ربطه بقرناء الخير من الصالحين الذين يمكن أن ينفعوه ويعينوه على الخير، ويحضُّوه عليه.
ولا شك أن تكوين محيط اجتماعي صالح خيِّر للولد لا سيما في مثل هذه الظروف التى تعيشها الأمة الإسلامية اليوم يعد أمراً صعباً شاقاً، ولكنه ليس بالمستحيل المتعذر الوقوع والتحقق؛ إذ يمكن للأب المسلم أن يجعل من بيته، وبيوت بعض أقاربه، وأصحابه، مجتمعاً صالحاً يمارس فيه الأولاد السلوك الإسلامي السوي، حتى يشتد عودهم، وتقوى إرادتهم، ويملكوا القدرة على التمييز بين الخبيث والطيب، ثم يمكَّنوا بعد ذلك من الدخول والمشاركة في المحيط الاجتماعي العام الذي لا بد لهم منه.
ولا يعني هذا أنهم لن يتأثروا ببعض سلبيات وانحرافات المحيط الخارجي، فإن التأثر به لا شك واقع، ولكن مع وجود هذا المجتمع الصغير الصالح، يكون التأثير ضعيفاً ليس بالقوي، وذلك لقلة الاحتكاك به، وقيام أفراد ذلك المجتمع الصغير الصالح بإزالة ما يقع في نفوس الصغار وعقولهم من الأفكار، والأخلاق المنحرفة أولاً بأول، فلا يسمحون لها بالتراكم والتمكن.
ويسعى الأب جاداً في تكوين ذلك المجتمع والمحيط الصغير الصالح من أقربائه وجيرانه وأصدقائه الصالحين، الذين انتهجوا المنهج الإسلامي اعتقاداً وسلوكاً، فيعمل على توطيد العلاقات معهم، والإكثار من الزيارات واللقاءات. ويمكن أن يُحقِّق ذلك من خلال الاتفاق على تنظيم زيارات دورية أسبوعية منتظمة يلتقي فيها الكبار على حده، ويمارس الأطفال معاً نشاطاتهم وألعابهم على حدة، بعيداً عن ضغط الكبار وتوجيهاتهم المباشرة، فيعيشون بعض الوقت في جو من الحرية والانطلاق.
ويمكن أن تتولى كل عائلة أسبوعياً استضافة باقي العوائل في منزلها إذا توفر المكان المتسع، والقدرة على ذلك، ووجد عند أحدهم مكان متسع، وفناء كبير، فإن ذلك أنسب للِّقاء، خاصة إذا تجنب الجميع المبالغة والتكلف في الإكرام، فإن تعذر هذا وذاك التقوا في الخلاء، وأماكن النزهة البريئة.
ويحاول الأب أن ينسق مع زملائه من الآباء المشاركين معه في هذه اللقاءات أن يعدوا للأولاد برنامجاً ثقافياً دينياً، وآخر رياضياً، فيتوزَّعوا مهام الإعداد بصفة دورية، ويكون إعداد البرنامج الثقافي عن طريق كتابة أسئلة وإجابات في بطاقات صغيرة، مع مراعاة أعمار ومستويات الأولاد المختلفة، ومراحلهم الدراسية,في اختبار المعلومات والأسئلة.
وتتضمن هذه البطاقات أسئلة من القرآن الكريم، وأخرى من الحديث، والسيرة، والثقافة العامة، وغير ذلك، مع مراعاة التركيز على المفاهيم الإسلامية العامة، كشمول الإسلام لكامل نشاطات الإنسان، ومفهوم العبادة، والأخوة في الله، وحب الصالحين، وبغض الفاسقين، وغير ذلك من المفاهيم العامة التي يمكن أن يدركها الأطفال، حيث تُبسَّط لهم وتقدم في صورة جميلة سهلة ميسَّرة.
كما يمكن إعداد مسابقات تنافسية بين الأولاد في حفظ بعض السور القصيرة، أو حفظ الأحاديث النبوية الشريفة، أو حفظ بعض الأناشيد الإسلامية الهادفة، والقصائد الشعرية.
ولا ينبغي أن يُغفل جانب الجوائز، فإن تأثير الجائزة كبير، خاصةعند الأطفال، فيُعد لذلك جوائز تقديرية مناسبة لأعمار الأولاد، دون تكلف مراعين رخصها وفائدتها وذلك مثل الأقلام، والمراسم، والكراسات، وعلب الأدوات الهندسية البسيطة، وغيرها من الأدوات المكتبية المفيدة الرخيصة، كما يمكن اختيار بعض الهدايا من الألعاب السهلة مثل الكور، أو العربات، والسيارات الصغيرة للأطفال صغار السن.
أما ما يخص النشاط الرياضي فيفضل أن يكون موعده سابقاً للبرنامج الثقافي، وذلك لشغف الأولاد وتعلقهم به، إذ إن علم الأولاد بوجود برنامج رياضي بعد البرنامج الثقافي: يقلل من إقبالهم وتفاعلهم الكامل مع البرنامج الثقافي.
ويفضل أن يتولى الإشراف على النشاط الرياضي أحد الآباء من ذوي الخبرة الرياضية في ميدان الحركة والنشاط، فيعد لهم برنامجاً منظماً يمارس فيه الأولاد معاً أنواعاً مختلفة من النشاطات الرياضية، فإن كان عددهم كبيراً جعلهم في مجموعات تمارس كل مجموعة لعبتها المفضلة.
ويراعي الأب النوع بين كرة القدم، والطائرة، والركض، واللعب بالرمل، والسباحة -إن تيسر- وتسلق الجبال ذات العقد، وغير ذلك من الألعاب المتنوعة المختلفة، والتي تعود على الأولاد بالفائدة الجسمية والنفسية.
ويحاول الأب بين فتره وآخرى أن يذكرهم بأن هدف الرياضة ليس من أجل الرياضة فحسب؛ بل هو تقوية الجسم، والمحافظة عليه، ليتقوى على طاعة الله، والقيام بالواجبات الشرعية التي كُلِّف بها المسلم.
ويلاحظ الأب في اختيار الألعاب الرياضية بعدها عن العنف والخطورة، كاللعب بالأخشاب وضرب بعضهم بعضاً، أو الملاكمة، أواستعمال الآلات الحادة، أو الحديد، فقد جاء النهي عن ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، حتى إن كان أخاه لأبيه وأمه))، ففي الحديث نهي عن ترويع المسلم وتخويفه بحديدة أو نحوها، فربما أخطأ الولد وزلت يده وأوقع الحديدة، أو الآلة الحادة على أخيه أو زميله، فآذاه وآلمه وعكَّر جو المرح والأنس.
كما يؤدب الأب أولاده ويعلمهم كيف يلاعبون ويخالطون زملاءهم، فيعلمهم المصافحة والسلام، ويعرفهم أجر ذلك عند الله، ويوطِّنهم على تقديم الخير لهم بنفس سخية، وأن لا يبخلوا عليهم بما عندهم، ويعلمهم الترفع عن الأخذ منهم، إلا أن تكون هدية، فقد نصح بذلك ابن الحاج رحمه الله حيث قال: " ويُمنع أن يأخد من الصبيان شيئاً… بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ". ويعلم الأولاد أن لا يأخذوا من أحد شيئاً دون رضاه حتى وإن كان ذلك من باب المزح والمداعبة، فقد ورد النهي عن ذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً ولا جاداً فإن أخذ أحدكم عصا صاحبه، فليردها عليه))، والحديث لم يترك حتى العصا التي لا يلتفت إليها، فالألعاب والملابس والأمتعة الأخرى من باب أولى يكون التحذير من أخذها أشد وأبلغ.
وفي سبيل تقوية أواصر المحبة بين الأولاد وأصدقائهم من الصالحين، يحث الأب أولاده على دعوة زملائهم إلى المنزل في بعض الأحيان لتناول طعام العشاء مثلاً، ويحاول الأب أن يدخل عليهم جميعاً السرور مظهراً بهجته بحضورهم، وأنه سعيد بقدومهم، مراعياً عدم الإطالة في الجلوس معهم، إذ إن ذلك يقلل من حريتهم وانطلاقهم، ويحث أولاده على تقديم الهدايا لزملائهم إذا زاروهم فإن للهدية وقعاً طيباً في النفس، كما أنها تذهب ما يقع في الصدر من غل أو حقد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((تهادوا فإن الهدية تذهب وغر الصدر)).
وإن حصل ان وجدت علاقة بين الولد وأحد الأولاد من غير الصالحين، وخشي الأب أن يؤثر على ولده سلبياً، وعجز عن توجيهه إلى الخير، أو لم يتمكن من ذلك فإن عليه أن يسارع بتنبيه ولده إلى وجوب قطع علاقته به وأن لا يخالطه مبيناً له ضرر ذلك الولد عليه، فإن تعذر ذلك لشدة تعلق الولد بزميله عمل الأب على تنفير الآخر بسوء استقباله وإظهار الاستياء لحضوره، وإن احتاج الأمر إلى إشعار أهله بذلك فحسن، إذ إنهم إن علموا بعدم رغبة الأب في مخالطة ولدهم لابنه أخذتهم العزة والأنفة، وحجزوا ولدهم ومنعوه عنه، أما ما يخص الصداقات والزمالة في المدرسة، فإن الأب يحاول أن يوجه ولده للانخراط في نشاطات المدرسة اللاصفية، وأهمها النشاط الكشفي؛ لما فيه من برامج تدرب على الجدية، والرجولة، والإقدام، إلى جانب تعلم الانضباط واحترام القيادة، وخدمة المجتمع، ويضاف إلى النشاط الكشفي نشاطات اللجان الطلابية مثل: لجان التوعية الإسلامية، واللجان الثقافية والاجتماعية. وعادة يكون الطلاب الملتحقون بهذه النشاطات جيدين ومثقفين أكثر من غيرهم، فلو تكونت بعض العلاقات والصداقات بين الولد وبعض هؤلاء الطلاب فلا بأس إن شاء الله.