إن مما تتطلبه الحياة الزوجية بعد الطاعة والاعتراف بالقوامة والانقياد للزوج : تصنُّع الإحسان إليه "بدوام الحياء منه، وقلة المماراة له، والسُّكوت عند كلامه، وإظهار القناعة، واستعمال الشفقة، وإكرام أهله وقرابته، ورؤية حاله بالفضل، وقبول فعله بالشكر، وإظهار الحب له عند القرب منه، وإظهار السرور عند رؤيته"، فلا يكفي الفتاة المسلمة قيامها بالفروض الزوجية فحسب، فإن الرفق في معاملة الزوج، والسعي في طلب مرضاته، وتكلُّف مداراته : من الأمور المطلوبة أيضاً، فهي تُضفي على العلاقة الزوجية بهجة، ومزيداً من السعادة، فالفتاة الصالحة المحبَّبة إلى زوجها : لا ترى أحداً من الرجال يساوي زوجها، فهي تُحبه المحبة الراشدة : محبة لذاته، وأخرى لحق الزوجية، بل وتتكلَّف محبَّته، حتى وإن لم تكن تُحبُّه على الحقيقة؛ وذلك لحق العشرة والإسلام، فليست كل البيوت تقوم على الحب الخالص، ولو كان الحب وحده شرطاً للإحسان بين الزوجين فإن " المرأة إذا فَرَكَت زوجها : مات ضعفها الأنثوي الذي يتم به جمالها والاستمتاع بها، وتعقَّد بذلك لينُها واسْتحْجر، فتكون مع الرجل بخلاف طبيعتها، فتنقلب أنوثتها الجميلة عربدة وخلافاً وشراً، فلا تستقيم حياتها إلا بالوفاق مع زوجها، إما بطريق الطبع فتألفُه ويألَفُها، وإما بطريق التكلُّف والمدارة، وبكليهما تستقيم الحياة الزوجية، وتستمر العشرة .
كما أن في قيامها باسترضائه - وإن كان هو أظلم - حفْظاً لكبرياء الرجولة من أن تُخدش، وهو في الحقيقة مسلك الزوجة المؤمنة الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام فيما جاء عنه : (( ودودٌ ولود إذا غضبت، أو أسيئ إليها، أو غضب زوجها قالت : هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمضٍ حتى ترضى ))، فلا تستنكف عن استعطافه واسترضائه في الوقت الذي تهيج فيه ثورة الذكورة الظالمة، مادام يُوصف بالصلاح، فإن في بعض الصالحين حدَّةً، لا يُسكِّنُها إلا الصبر، وحسن التدبير من المرأة الصالحة، ويُروى في هذا المعنى أن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما كان في خُلُقه شدَّة، فلما غاضب زوجته يوماً قالت له : " أما والله لقد حذَّرتك، قال : فأمرك بيدك، فقالت : لا أختار على ابن الصديق أحداً …"، فرضيت به لصلاحه وفضله، مع ما فيه من شدة .
وفي ترك الشِّكاية منه، وكتم أخبارالسوء، ونشر أخبار الخير : مظهر من مظاهر الإحسان، فقد أبغض الرسول r مجرَّد انطلاق المرأة من بيتها بغرض شكاية زوجها، ولما جاءته خولة بنت مالك تشكو زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنهما، ورغم ما كان فيه من سلوك الحدَّة معها، وما أتى به من القول الغليظ، قال لها رسول الله r : (( يا خويلة ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه ))، ثم نزل بعد ذلك في شأنها ما نزل من القرآن، تقول جورج إليوت : " المرأة التي تبيح لنفسها أن تكشف عن طواعية القناع عن حياتها الزوجية، إنما تستبيح بذلك حرمة هذه الحياة، وتنزل بها من محراب مقدس إلى مكان مبتذل " .
وإن كان في حال الزوج رقَّة، فإن صورة مقام الإحسان: الصبر على ذات يده، كما هو حال الصالحات من خيار النساء، وترك التثريب عليه، ما دام عاجزاً عن الكسب لسبب مشروع، فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاقب امرأة تركت الصبر على فقر زوجها لما كَبُرت سنه، وقعد عن الكسب، ورسول الله r امتدح المرأة من أهل الكتاب: تصبر على الفقر مع زوجها ولا ترغب عنه.
وإن كان الزوج صالحاً، قائماً بواجباته الشرعية فإن تصنُّع الإحسان إليه في هذه الحالة أبلغ وآكد، فهذه زوجة الإمام أحمد بن حنبل بعد أن دخل عليها بأيام قالت له: " هل تنكر مني شيئاً؟ قال: لا، إلا هذه النَّعل التي تلبسينها، ولم تكن على عهد رسول الله r، قال: فباعتها واشترت مقطوعاً فكانت تلبسه "، ومكثت عنده نحواً من عشرين سنة لم تختلف معه في كلمة واحدة. وكذلك الشيخ مظفر بن أبي بكر بن مظفر التركماني القاهري مكثت معه زوجته خمسين سنة لم تختلف معه في شيء، وتقول المرأة الصالحة العالمة بنت سعيد بن المسيب مُبيِّنة سلوك النساء الصالحات مع أزواجهن، ومبالغتهن في الإحسان إليهم: "ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله". ويقول ابن الجوزي رحمه الله ناصحاً الزوجة المؤمنة إذا رُزقت رجلاً صالحاً: "وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجاً صالحاً يلائمها: أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته، أو تعرضت لما يكرهه: أوجب ملامته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها، أو آثر غيرها، فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي، ومعلوم أن المَلَلَ للمُسْتحْسن قد يقع فكيف للمكروه".
وقد تستخدم الفتاة المتزوجة جمالها، وتمام جاذبيتها في كسب رضا زوجها متخفِّفة من أعباء مسلك المجاهدة الخلقية، وتصنُّع الإحسان، فإن هذا النهج يمكن أن يُثمرأحياناً إلا أنه محدود الأثر، وسرعان ما تزول عن الفتاة نضارة الشباب، وجمال المطلع، بل قد يكون جمال الفتاة - في حد ذاته - سبب تعاستها الزوجية، فإن كثيراً من الجميلات يخفقن في حياتهن الزوجية، ولعل ذلك لاختيالهن بجمالهن، وترك طريقة الإحسان في معاملة الزوج اعتماداً على تأثير الجمال وحده؛ ولهذا كثيراً ما ينهى الحكماء عن الاقتران بالمرأة البارعة الجمال، لاعتمادها على جمالها في استرضاء زوجها، ومن المعلوم أن الجاذبية الباطنة في طبع الزوجة، المتضمنة للمشاركة الوجدانية الرقيقة، وسرعة الاستجابة، والعاطفة الجياشة، وسرعة الفهم : أشد تأثيراً في الزوج من الجمال الظاهر، تقول هند بنت المهلَّب مشيرة إلى هذا المعنى : " رأيت صلاح الحرة إلفها، وفسادها بحدَّتها " .
ومن هنا تتيقن الفتاة المسلمة أن الإحسان من أعظم أبواب السعادة الزوجية، وأن مظاهره كثيرة، تتسع لكل مناشط الخير التي يمكن أن تتعامل بها الفتاة مع زوجها .