يتغلغل مفهوم النظافة في جوانب وجزئيات الشخصية المسلمة، حتى ليبدو وكأنه قضية التشريع الكبرى؛ فإن أحكام الطهارة في الفقه الإسلامي تحتل عادة صدور المصنَّفات، وأوسع الأبواب الفقهية، حتى عُدَّ "الطُّهُور شطر الإيمان…"، ودخل عنصر الماء -كأداة للطهارة والعبادة- صلب الحياة الإسلامية -تماماً- كما دخل عنصراً رئيساً في تركيب الأحياء، فقد قال الله U : {…. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فجعل الشارع الحكيم الوضوء والغسل واجبين لصحة بعض أنواع العبادة، وجعل معدل استخدام الماء للوضوء كحد طبيعي: خمس مرات في اليوم والليلة، وحدَّد أسبوعاً واحداً كأكثر مدة يمكن أن يترك فيها المسلم -ذكراً كان أو أنثى- الغسل، وضبط - إلى جانب هذا- طرق التخلص من الفضلات عبر السبيلين، وسبل اتقاء أذاهما، وشرع حلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وجعل كل ذلك من سنن الفطرة، وحدَّد ترك ذلك بأربعين ليلة، لا يتجاوزها المسلم، وسن السواك حتى كاد أن يجعله فرضاً؛ لما فيه من المنافع والفوائد، وأمر - مع كل ذلك- بنظافة الأماكن من الأوساخ، وما يجلب الضرر العام والخاص، وحتى طريقة الامتخاط كيف تكون؟ فقد وضع الشارع الحكيم لذلك آداباً وسنناً لا بد من رعايتها، والذي يراجع نمط العمارة في التاريخ الإسلامي يجد الاهتمام البالغ ببناء الحمامات العامة، حتى بلغ عددها في بغداد وحدها ألفي حمام في القرن السادس الهجري.
إن هذه التوجيهات الشرعية، والآداب النبوية لا علاقة لها بجنس المسلم ما دام مكلفاً، بل إذا قيل: إنها ألصق بجنس الإناث لما بَعُدَ هذا عن الحق؛ وذلك لسببين رئيسين:
الأول: لما يخالطهن من الدماء الطبيعية المتكررة في الدورة الشهرية والنفاس، وما يلحقهن من أذى في معاناتهن لشؤون الرضاعة والحضانة، ومهام رعاية النسل، وخدمة البيت، مما يجعل للنظافة عندهن قيمة خلقية عالية، وفي هذا المعنى قال عامر بن الظرب لامرأته: "مُري ابنتك ألا تنزل مفازة إلا ومعها ماء، فإنه للأعلى جَلاَء، وللأسفل نقاء".
الثاني: كون الواحدة منهن موقع استمتاع للزوج، تسرُّه بمنظرها، وتشرح صدره بطيب رائحتها، فلا يصح أن يرى أو يشم ما ينفِّره منها، ويزهِّده في قربها، فإن رسول الله r - الذي هو أزهد الخلق - كان يبعث لمن يريد خطبتها من يخبر له طهارتها ونظافتها، ويُروى في هذا المعنى أن الفرافصة لما أرسل ابنته نائلة عروساً إلى عثمان بن عفان t قال لها: "يا ابنتي إنك تقدمين على نساء من نساء قريش، هن أقدر على الطيب منك، فاحفظي عني خصلتين: تكحلي وتطيَّبي حتى تكون ريحُك رِيحَ من أصابه مطر".
إن بلوغ مستوى توجيهات الإسلام في جانب النظافة لا يتحقق للفتاة على الوجه الصحيح حتى تصبح هذه الأنماط السلوكية قيماً خلقية في حسِّها، وحاجة مهمة تشعر بحزن فقْدها عند غيابها، فلا تزال تراعيها، وتتعاطاها حتى تصبح جزءاً من كيانها، تصدر عنها بيسر دون تكلُّف، ولعل أقل ما يقال في شأن النظافة أنها من مروءة الإنسان؛ فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t : "من مروءة الرجل نقاء ثوبيه، والمروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة، وإنه ليعجبني، أو إني لأحب أن أرى الشاب الناسك النظيف"، فلا يكفي الفتاة أن تكون متدينة مستقيمة حتى تكمل بالنظافة والطهارة.