يصحُّ بدن الإنسان بين أسباب الوقاية وأنواع العلاج، في سنن فطرية ثابتة ضمن قدر الله تعالى وقضائه العام، فما من داء إلا وله دواء يصلح له، فإذا أصابه حصل الشفاء بإذن الله تعالى، ولهذا حثَّ الشارع الحكيم على التداوي، واتخاذ العلاج، وأوصى بأنواع منه مختلفة، وحذَّر من أخرى، وفي الجانب الآخر: أمر بالوقاية، والحرص على تجنب الإصابة بالمرض، في غير تكلُّف وهلع يخرج صاحبه عن مراتب التوكل وحدِّ الاعتدال.
إن من أعظم أسباب السلامة تكوين العادات الصحية الجيدة، بحيث يتكون لدى الفتاة رصيد من الصحة الجسمية، التي تمكِّنها من القيام بوظائفها البدنية بكفاءة مُرْضية، مع قدرتها الجيدة على التحمُّل الجسمي في مواجهة الأمراض، والتغلُّب عليها، وذلك من خلال التأثير الإيجابي على معارفها واتجاهاتها الصحية، ومن ثَمَّ ترجمتها في أنماط سلوكية صحية، بحيث تصبح قادرة على أن تسعى جادة، وبصورة تلقائية، وبمجهوداتها الشخصية للحصول على الصحة البدنية، وتتحمل -كعضو اجتماعي مكلَّف- رعاية جسمها صحياً، دون الحاجة إلى عون الجماعة التي تمارس في هذا العصر أرذل صور السلبية الصحية، وتتعاطى أنواعاً متعددة من العادات والسلوكيات التي تتعارض بصورة صارخة مع أبسط قواعد الصحة العامة، وآداب السلوك.
ولعل في عادة التدخين -فضلاً عن المحرمات المنتشرة من المآكل والمشارب- ما يدل على هذا المعنى بوضوح، حيث تمارس المجتمعات الإنسانية المعاصرة تجاهه أقبح أنواع التناقض العقلي، وأحط أساليب التخاذل الدولي، ففي الوقت الذي ثبت فيه ضرره الصحي الفادح عند كافة الشعوب المعاصرة، واستقرت حرمته عند علماء الأمة المسلمة بصورة خاصة: ما زالت المجتمعات المعاصرة قاطبة تُقرُّه كسلعة اقتصادية رائجة، وتسمح للأفراد بتعاطيه ضمن حرياتهم الشخصية، مكتفية في مواجهة أضراره الصحية البالغة بإقامة الحجة الهزيلة على متعاطيه بالكتابة الرمزية على منتجاته بأنها ضارة، ثم تسمح -بعد ذلك- لوسائل إعلامها المختلفة بالترويج له كأقوى ما يكون بصورة مباشرة وغير مباشرة، وتُسهِّل لشركات التبغ الوصول به إلى كل أفراد المجتمع حتى الأطفال، في صور متناقضة من التخاذل الاجتماعي الذي يصعب تبريره.
ورغم أن التدخين بأنواعه المختلفة كان إلى عهد قريب عادة ذكورية: فقد أقبل عليه النساء مؤخراً بصورة كبيرة حيث يشكِّلن اليوم ثلث المدخنين، وحتى الفتيات اللاتي يُعتبرن في العموم أقلَّ إقبالاً عليه من الذكور: فقد تورَّط كثير منهن في تعاطيه إلى درجة الإدمان، حتى وصلت أعداد المُدخّنات في أحد البلاد الإسلامية إلى 39% وفي أخرى إلى 50%، وما زالت أعداد المدخنين من الجنسين في تزايد عالمي مستمر، يُنذر بخطر صحي كبير، ففي الوقت الذي تنخفض فيه معدلات التدخين لدى الغرب: تزداد -للأسف- معدلاته في الدول النامية، ولعل ارتباط التدخين عند المرأة بقضايا التحرير، والحقوق، والمساواة: دفعها في الستينات من القرن العشرين إلى التوسع في تعاطي التدخين.
ومع كون الفتيات -بحكم كونهن مكلفات شرعاً، ومسؤولات أمام الله تعالى عن سلامة أبدانهن -يستوين مع الذكور في حرمة التدخين، وتبعة الخطيئة: فإنهن -مع ذلك- ينفردن عنهم بمزيد من الإثم، وتبعة المسؤولية، وذلك لسببين:
السبب الأول: كون الواحدة منهن موقع استمتاع للزوج، يتعفَّف بها عن الوقوع في الحرام، فلا يصح منها أن تعتاد ما يُنفِّره منها، ويزهِّده في قربها فتسوقه بالتالي إلى الانحراف، والدخان -كما هو معلوم- من المواد المشوِّهة لجمال المرأة، ورائحته من أشد الروائح الكريهة نفاذاً في الأبدان، والملابس، والأثاث، وقد نصَّ بعض الفقهاء على أن من حق الزوج منع زوجته من أكل ما يُنتن الفم، ومن شرب الدخان؛ لما فيه من الرائحة الكريهة.
السبب الثاني: كون الفتيات موضع الحرث وإنتاج النسل ورعايته: فلا يجوز لهن أن يتعاطين ما يُعطِّل أو يُفسد قيامهن بهذه المسؤولية الكبرى، وعادة التدخين -بإجماع الأطباء- تؤثر بصورة سلبية على صحتهن أكثر من تأثيرها السلبي على الذكور، فتُقلِّل من خصوبتهن، وتضرُّ بصحة الأجنة في بطونهن بصور مختلفة، وربما إلى حدِّ الإجهاض، إضافة إلى تأثيره السلبي على نشاطهن الجنسي في العموم، إلى جانب الأضرار الصحية التي يتعرض لها الأطفال الصغار من جرَّاء استنشاق الدخان المتصاعد من أفواه الأمهات ومناخرهن؛ فإن (15%) من موتى التدخين هم من المتعرضين للدخان وليسوا من المدخنين.
ومن هنا فلا يصح للفتاة المسلمة أن تتعاطى شيئاً من الدخان تحت أي مبرر، وعليها أن تتجنب الأسباب الاجتماعية والنفسية التي تسوق إليه: كالمشكلات الأسرية، والاضطرابات العاطفية، والاكتئاب النفسي، والشعور بالإحباط والإخفاق، مع الحذر الشديد من حياة الترف، التي تُغري الفتيات بالتجريب وحب الاطلاع، والتعبير من خلال التدخين عن علو الشأن، وارتفاع المكانة الاجتماعية، والانطلاقة نحو التحرّر والانفتاح، فقد ثبت عند كثير من الباحثين ارتباط عادة التدخين بكثير من الجرائم والانحرافات الخلقية الكبرى، التي لا تتوقع الفتاة أن تصدر عنها، فإن المعاصي يجرُّ بعضها إلى بعض، والأخطاء يدفع بعضها إلى بعض، كما أن الطاعات يحفِّز بعضها إلى بعض، وقد أثبتت الدراسات أن التدخين بوابة تعاطي المخدرات؛ فإن (90%) من متعاطي المخدرات بدأوا بالتدخين، كما أن نسبة كبيرة من المواد المخدرة يتعاطاها أصحابها عن طريق التدخين، وفي الجانب الآخر "تظهر الأبحاث أن الطلاب الذين لم يدخنوا إطلاقاً: أقل ميلاً إلى تعاطي المخدرات، وأن الشاب الذي يصل إلى سن العشرين دون أن يدخن: لا يحتمل أن يبدأ في التدخين بعد هذه السن"، كما أن "الأطفال الذين يبدؤون في تعاطي التدخين قبل سن الخامسة عشرة تكون لديهم القابلية للوقوع في الإدمان ضعف غيرهم من الطلاب الذين لم يبدؤوا في تعاطي السجائر أو الكحول إلا في سن متأخرة".
وأما إذا ابتُليت الفتاة بالتدخين -ولو إلى درجة الإدمان- فليس لها وسيلة إلا الإقلاع التام بصورة مباشرة، ولا تترك هذه العادة القبيحة كالغلِّ في عنقها، فمع كون الخمر أعظم إدماناً من الدخان: فإن كثيراً من الصحابة، رغم ما ألفوه من حبها وتعاطيها: نزعوا عنها وهم يعاقرونها، وأقلعوا عن تعاطيها بالكلية دفعة واحدة لما بلغهم الأمر باجتنابها، فهذا مقام الإرادة التي يمتاز بها الإنسان عن سائر طوائف الحيوان، وهو وسيلة الفتاة الوحيدة- بعد عون الله تعالى- للخلاص من عادة التدخين بصورة صحيحة ونهائية.
ولا ينبغي من الفتاة المسلمة المعاصرة التي ثبت عندها وتواتر بيقين ضرر التدخين بأنواعه على صحة الإنسان أن تعتمد على بعض الفتاوى السابقة والقديمة المبيحة لتعاطيه، أو التي تصفه بالكراهة وتتردَّد في تحريمه، فهذه الفتاوى في غالبها لم يثبت لدى أصحابها الضرر العظيم الذي يخلّفه التدخين على متعاطيه، ومع ذلك فقد ربطوا القول بالتحريم إذا ثبت الضرر، وتحقق الأذى، إلا أن ذلك لم يثبت لديهم في زمنهم بالوضوح الذي ظهر في هذا العصر، من خلال المكتشفات الطبية، والأرقام الإحصائية، فأي ضرر أعظم من أربعة ملايين قتيل سنوياً بسبب التدخين؟ عدا من تتعطل صحته بسببه، إضافة إلى الأرقام الفلكية من الثروات التي تُهدر في زراعته، وصناعته، وشرائه، والإعلان عنه.
ولا ينبغي استهجان القول بالتحريم لهذه الآفة فقد قال به البابا النصراني في عام 1642م، وأصدر إمبراطور روسيا في زمنه القوانين بأشد العقوبات على المدخنين، والخلاف الذي وقع بين الفقهاء المتأخرين بشأنه يرجع إلى أن تعاطيه من الحوادث المستجدة التي لم تظهر إلا بعد سنة ألف من الهجرة النبوية، حين بدأ بعض اليهود والنصارى والمجوس ينقلون شجرته إلى بلاد المسلمين، فتلقَّفه بعضهم وتعاطوه، واعتادوا عليه.
ثم إن ربط مسألة التدخين بالدين أمر مهم، وله إيجابيته في سلوك الناس؛ فقد ثبت أن هناك علاقة بين ارتفاع درجة التدين وانخفاض نسبة التدخين، إلى جانب أن المسلم لا يرى أمراً من أمور الحياة -مهما كان يسيراً- يمكن فصله عن الدين، لاسيما ماله صلة مباشرة بمقاصد الشريعة الإسلامية كقضية التدخين التي تتعارض بصورة صارخة مع مقصد حفظ النفس، ورعايتها من الضرر والأذى.