يعتبر الغذاء من أعظم مقوِّمات كيان الإنسان الجسمي، فإن الإفراط في الجوع، "وملازمة الحمْية: تُنهك البدن وتهزله"، فإذا أدَّى ذلك إلى الإضرار الفادح بالبدن، والعجز عن القيام بالواجبات والتكاليف الشرعية: كان حراماً؛ ولهذا رُكِّبت في الإنسان شهوة الطعام، لتكون أداة حثٍّ لتحقيق مصلحة البدن من خلال إشباع هذه الحاجة الجسمية الأولية، بحيث لا يُذمُّ الإنسان في طلبه للطعام وميله إليه، وإن أدَّى ذلك إلى أن يصل به إلى حدِّ الشِّبع، لاسيما في فترة الشباب التي تزداد فيها حاجة البدن إلى مزيد من الغذاء.
وعادات الفتيات في تناول الطعام كسائر العادات الإنسانية في واقع الحياة: يحتفُّ وسَطُها بجانبي الإفراط والتفريط، بحيث يصلن إلى درجة الإفراط المذموم في تعاطي المأكولات، والمشروبات إلى حدِّ الشره أحياناً، ولهذا يُلاحظ الشره بين الفتيات أكثر منه بين الفتيان، وبالتالي يعانين من مشكلة زيادة الوزن التي تنتشر بينهن أيضاً، فقد يفوق ما تلتهمه إحداهن في اليوم في مجالس متعددة ما يتناوله الرجل في المجلس الواحد، وربما انحدرت ببعضهن العادات في الجانب الآخر إلى حد الشذوذ المفرط -غير المعقول- في الامتناع عن الطعام، وهذا يشبه إلى حد ما امتناع بعض الفتيات عن تناول وجبة الإفطار، فقد دلَّت دراسة سعودية على أن 42% من الطالبات يحضرن المدارس دون تناول وجبة الإفطار، إلى جانب تلبسهن بأنماط غذائية غير صحية، وبين هذين الجانبين المتباينين من مراتب الإقبال والإحجام، والإفراط والتفريط عند الفتيات ما يخضع لحالة إحداهن النفسية، ووضعها الاجتماعي، ومدى استحكام "الموضة" في اختيارها لأحجام الملابس، وإلى أي حد بلغ رضاها عن جسمها؛ فإن هناك علاقة قوية بين رضا الفتاة عن جسمها وبين فقدانها لشهية الطعام، ولهذا يُلاحظ أن الطعام كثيراً ما يكون موضع انتقام للفتيات بالإفراط في الإقبال عليه، أو التفريط في الامتناع عنه، وذلك بسبب صراعات نفسية أو معاناة اجتماعية، أو إخفاق ما في الحياة.
ولما كانت الطبيعة البدنية في حاجة إلى سياسة الاعتدال في تناول الغذاء، فقد أحكم منهج التربية الجسمية في التصور الإسلامي جانب التفريط في حق رعاية البدن بإحياء مسؤولية الفرد عن صحته الجسمية، وضبط جانب الإفراط بمناهج التربية الزهدية، وربطه -كسنَّة جارية- بين اعتدال المسلك في المأكل والمشرب، وبين جوانب الصحة النفسية، والعقلية، والجسمية، بحيث لا يكاد يتخلف التأثير الإيجابي لمنهج الاعتدال على هذه الجوانب المهمة من كيان الإنسان؛ حتى إنه ليبلغ تأثيره الإيجابي الفاعل جانبي الإنسان: الإيماني في قلبه، والخلقي في سلوكه، ثم أحاط -بعد ذلك- منهج التربية الجسمية هذا المسلك الاعتدالي بمجموعة من الأحكام الشرعية، والآداب المرعية التي تضفي عليه صبغة اعتقادية، وطابعاً أدبياً، ووقاية صحية، تؤثر في مجموعها على شخصية المسلم بجوانبها المتعددة.
ووسيلة الفتاة الأولى للأخذ بهذا المسلك الوسط - بعد القناعة الكاملة به- هو المران؛ فإن النفس الإنسانية إذا ألفت شيئاً، واعتادت عليه: صار من جبلتها، يصدر عنها دون تكلف وأما الوسيلة الثانية فمن خلال التعرف على أنواع الغذاء النافع، والأكثر جودة، والإعراض عن الرديء منه، وإن كان لذيذاً، خاصة في هذا العصر الذي انحطَّ فيه مستوى الجودة النوعية، وكثرت فيه المعالجات الكيميائية حتى غدا الإنسان المعاصر ضعيفاً في بنيته، ومعرَّضاً "لكثير من الأسباب التي تقلل من سعادته، بل والتي تعرضه لانحراف المزاج، وللإصابة بالتوترات المستمرة، وعدم التكيف والتلاؤم مع البيئة".