25ـ الروح الجهادية عند الفتاة والمرأة المسلمة

لا تختص مظاهر الجهاد – بمعناه العام – بالرجال؛ بل إن للنساء والفتيات من مظاهر هذا السلوك الإيماني نصيباً: يظهر في سلوك بعضهن ، ويبرز بدافع إيماني راسخ في النفس، نابع من أصل عقيدة الإيمان بالله تعالى، ومحبته، وطلب مرضاته.

ومن مظاهر السلوك الجهادي الذي يظهر على سلوك المؤمنين: الاستعلاء الإيماني، فإن هذا الشعور يلازمهم في كل موقف، ويُملي عليهم سلوكاً معيناً في غير احتقار أو استكبار على الغير، وقد وجَّه الله I المؤمنين إلى هذا النوع من السلوك فقال U : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران:139]، وقال أيضاً: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [ المنافقون:8] .

وقد ظهر هذا الفهم واستقر في سلوك المرأة المؤمنة قديماً؛ فهذه امرأة فرعون تُضرب الأوتاد في يديها ورجليها لتترك دينها فتأبى حتى تُقتل صابرة محتسبة مستعلية بما وقر في قلبها من الإيمان، وكذلك لما أبت ماشطة ابنة فرعون الردة، ذبح فرعون أولادها وأحرقهم أمامها ثم قتلها، دون أن تتزحزح عن موقفها الإيماني المستعلي على مظاهر الطغيان البشري.

وظهر هذا السلوك كأبلغ ما يكون في عهد النبوة في جمع من الفتيات المؤمنات، فهذا عمر بن الخطاب t قبل إسلامه يضرب أخته على الإسلام فتقول له مستعلية بإيمانها: "يا ابن الخطاب ما كنت فاعلاً فافعل، فقد صبوت" وكان يعذب جارية بنت عمرو بن مؤمِّل لما أسلمت عذاباً شديداً حتى يملَّ من تعذيبها، وهي على إيمانها صابرة لا تتزحزح.

ومن مظاهر السلوك الجهادي أيضاً: الصبر على الابتلاء ، فإنه سنة ربانية ماضية في كل من انتسب إلى التوحيد وأهله حتى يتبين أهل الصدق من غيرهم، قال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] ولقد كان هذا الفهم القرآني واضحاً في نفوس النساء الأوائل زمن النبوة، فقد أسلمن وعشن المرحلة السرية في مكة متخفيات بإيمانهن، ويعلمن علم اليقين طبيعة وخطورة هذا الطريق، والتكاليف التي يتكبدها مَنْ سلكه، حتى الصغيرات من أمثال أسماء وعائشة رضي الله عنهما كن مثالاً رائعاً في الالتزام بالسرية، وضبط النفس عند نزول البلاء، كما ظهر ذلك واضحاً عند الهجرة النبوية.

وهذه زينب بنت رسول الله r و رضي الله عنها أوذيت في هجرتها، وأسقطت ما في بطنها، حتى قيل إن رسول الله r قال فيها:(هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ), وكانت الحولاء بنت يزيد بن سنان مسلمة ، فكان زوجها يؤذيها في صلاتها، فيقلبها على رأسها وهي ساجدة، وربما أخذ ثيابها فوضعها على رأسها وهي تصلي، فما زالت صابرة محتسبة لا يردها ذلك عن دينها.

لا بد أن تدرك الفتاة المسلمة المعاصرة أن الإيمان: تكاليف، وأمانة وأعباء، وجد وجهاد، وأن إعلان الإيمان، والانتماء إلى أهل التوحيد: يتبعه افتتان، واختبار يصبر فيه من يصبر، فتخلص نياتهم وقلوبهم، ويسقط فيه من يسقط غير معبوءٍ به، إن إدراك الفتاة لهذا المعنى في الإيمان يساعدها على توطين نفسها لاحتمال البلاء – أياً كان نوعه- في النفس، أو المال، أو العرض.

ومن مظاهر السلوك الجهادي أيضاً ما يحصل من بعض المؤمنات من مباشرة القتال في المعارك، فإن مباشرة الفتاة المؤمنة للقتال تعد من أعظم دلائل الإيمان بالله تعالى؛ فإنه لا يقدم على مثل هذه المواقف عادة إلا المخلصون من أهل الإيمان، إلا أن مبدأ مباشرة النساء للقتال ليس بواجب عليهن، وإنما هو واجب على البالغين القادرين من الذكور المؤمنين. إلا في حالات الضرورة عند الهزائم، أو مداهمة الأعداء للمسلمين في عقر ديارهم، فإن القتال حينئذ يكون واجباً على جميع القادرين حتى النساء والصبيان والعبيد، وقد كانت بعض النساء زمن رسول الله r وما بعده في زمن الخلفاء يشاركن في حواشي المعارك غالباً، فيما لا قتال فيه، من إعداد الطعام، ورعاية الجرحى والمصابين، وتشجيع المقاتلين، ورد الفارين ونحو ذلك. وإذا حصلت هزيمة، أو انكسر المسلمون وكان في الأمر شدة: شارك بعضهن ورددن عن أنفسهن العدو بما استطعن من قوة.

وقد وصف ابن كثير ~ٍٍِِ مشاركة النساء في معركة اليرموك فقال: "والمسلمون في أربعة وعشرين ألفاً، فقاتلوا قتالاً شديداً حتى قاتلت النساء من ورائهم أشد القتال".

ولم تكن هذه المظاهر الجهادية وقفاً على القرون المفضلة فلا يزال عطاء المرأة المسلمة، والفتاة المؤمنة متدفقاً مستمراً، فهذه غالية البقمية من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ~ٍٍِِ، تدافع بنفسها عن مدينة "تربة" وتقاتل جيوش طوسون بن محمد علي باشا عام  1229هـ دفاعاً عن هذه الدعوة المباركة.

وكذلك في العصر الحديث، أظهر بعض الفتيات والنساء من مظاهر الجهاد – على ما كان عليهن من ملاحظات فكرية وسلوكية- ما قد يعجز عنه كثير من الرجال، فهذه دلال المغربي، الشابة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها تموت ضمن مجموعة من المقاتلين ضد اليهود في عام 1398هـ وكذلك مريم خير الدين اللبنانية الأصل في سن الثامنة عشرة، تهاجم بسيارة ملغمة موقعاً للجيش اليهودي في جنوب لبنان عام 1405هـ، وتقتل تسعة عشر جندياً إسرائيلياً، وتستشهد هي على إثر الحادث، وكذلك الداعية بنان علي الطنطاوي قتلت عام 1401هـ في ألمانيا وهي تدعو إلى الله تعالى برفقة زوجها صابرة محتسبة.

وفي أحداث الانتفاضة الفلسطينية المباركة، التي تشربت بالروح الإسلامية والجهادية: برز فيها جمع كبير من الشباب الفدائيين المتطلِّعين إلى الشهادة في سبيل الله تعالى كما برز فيها جمع أخر من الفتيات المجاهدات المتطلعات إلى الموت في سبيل الله تعالى، دفاعاً عن القدس الشريف، فقد أظهرن من القوة الإيمانية ورباطة الجأش، والثبات والإقدام، والدقة في تنفيذ العمليات الجهادية ضد اليهود المغتصبين ما اعتُبر بحق أعجوبة العصر، من أمثال: نضال ضراغمة، وعندليب طقاطقة، ووفاء إدريس، ودارين بوعمشة، وآيات الأخرس، وإلهام الدسوقي، وغيرهنَّ من نوادر هذا الزمان، ممن أثبتن أن روح الجهاد في سبيل الله لا تزال حية في الأمة الإسلامية، وأن القوة الإيمانية في نفوس الإناث لا تقل عمَّا عند الرجال.

إن هذه المظاهر الجهادية تدل على استمرار عطاء الفتاة والمرأة المسلمة إذا غُذِّيت بالعقيدة الصحيحة، ومحبة الله تعالى ورسوله r فإنها تُظهر من معاني ومظاهر الجهاد ما يكون مفخرة لأبناء جنسها، ومثالاً يُحتذى، فأيُّ أثرٍ تركته أم عمار بن ياسر رضي الله عنها للفتاة المسلمة – في كل عصر – من معاني الجهاد والفداء، ومن ذا يستطيع من الرجال أن يسلبها لقب أول شهيدة في الإسلام، فإنه لم يسبقها أحد من المسلمين إلى هذه المنزلة.