إن الشعور بالانتماء إلى الأمة المؤمنة التي يقودها موكب الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام: يبعث شعوراً بالمحبة الصادقة تجاه هذا الكيان الإيماني الكبير، الذي امتثل مراد الله تعالى في أكمل صورة بشرية، لا مزيد عليها، ولا مثيل لها في غيرهم، ممن لم ينل شرف النبوة من عامة الخلق، فاستحقوا واستوجبوا كمال المحبة من المؤمنين لكمال مقامهم، فليس فيهم، ولا يصدر عنهم ما يدعو إلى النفرة، أو يشعر بالقبح في سلوكهم، أو صورهم.
وكما أن محبَّتهم في العموم واجبة لاستحقاقهم إياها، فإن تخصيص محمد r بمزيد محبة وإجلال أمر مطلوب؛ إذ هو أفضلهم، وأكرمهم على الله تعالى، وفي الحديث قال رسول الله r :( أنا سيد ولد آدم …), وهذا ليس من باب الفخر، وإنما هو من باب البيان الذي يجب عليه تبليغه للأمة، حتى يعتقدوه ويعملوا به، ويعرفوا مقامه ومرتبته، باعتباره أفضل الخلائق أجمعين؛ بل إن محبته u من عناصر صحة الإيمان، كما قال r:(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين), كما أن محبته من تمام محبة الله تعالى، فالأمة تحبه لحب الله تعالى إياه. فالواجب أن يُحَبَّ أعلى درجات المحبة، فإن أسبابها ومستلزماتها: من الجلال والعظمة والكمال الخَلْقي والخُلُقي كلها قد جُمعت في شخصه عليه الصلاة والسلام، فليس للمؤمن أمام شخصه الكريم إلا المحبة والإجلال والتبجيل.
وقد مثل الجيل الأول أعلى درجات المحبة له r ، فهذه أم سليم رضي الله عنها تحتفظ بفم قربة قطعتها بعد أن شرب منها رسول الله r وأخرى تدعو الله أن تكون رفيقة الرسول r في الجنة، وتفرح إحداهن فرحاً عظيماً لما بعث إليها يقرأ عليها السلام، وربما وهبت إحداهن نفسها له u لينكحها محبة فيه، وربما ماتت إحداهن لما علمت برغبته في نكاحها، ولما أرادت إحداهن وصفه لبعض التابعين قالت: "لو رأيته رأيت الشمس طالعة".
وقد بلغ بإحداهن أن تجمع عرقه فتجعله في الطيب، ووصل الحد بأخرى أن تشرب بوله u كل ذلك كان يتم بعلم الرسول r وإقراره، مما يدل على أن هذه الممارسات من مظاهر محبته، وأن ذلك الجيل لم يخرج بهذه الأعمال عن نهج الاعتدال إلى الغلو المذموم الذي قد يقع فيه الغلاة.
وقد ظهر واضحاً في ذلك الجيل التفريق بين محبته عليه الصلاة والسلام وبين الغلو في شخصه الكريم، حيث برز ذلك واضحاً في سلوك أعظم فتاة محبَّةٍ للرسول r وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، لما نزلت براءتها في حادثة الإفك، حيث قيل لها: قومي إلى رسول الله r، فقالت: "لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله"، فكانت مدركة ومفرقة لما يجب لله تعالى، وما يكون لرسول الله r .
إن محبة رسول الله r لا تنقطع بغياب شخصه الكريم، فإن المطلع على سيرته المباركة، وفضائله، وشمائله لا يملك إلا أن يحبه، ويجلَّه ويتعلق به تعلقاً عظيماً، فهذا التابعي الجليل ثابت البناني يقول لأنس بن مالك t : "أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله r حتى أقبلهما" فالمجال مفتوح للفتاة المسلمة المعاصرة، للترقي في مراتب الإيمان بالرسل الكرام عموماً، وبالرسول محمد r خصوصاً، من خلال الاطلاع على السيرة العطرة، والأخبار الشيقة الواردة فيها.