24ـ الأهمية الاقتصادية للخدمة الأسرية

ويُقصد بالخدمة الأسرية: العمل المنزلي الصرْف الذي لا يترتب عليه مردود مالي مباشر: كالإنجاب، ورعاية الصغار، ونظافة البيت، وطهي الطعام، وغسل الملابس، ونحوها من أنواع الخدمة الإنسانية والعائلية التي تندرج عادة ضمن الإنتاج المعنوي الذي لا ترجو النساء من ورائه كسباً مالياً، ويعتبر هذا النوع من العمل في حق الإناث أوسع مجالات أعمالهن على الإطلاق، وألصقها بطباعهن، إلى جانب أنه أعظم مشاريعهن التنموية، وأجلُّ ميادينهن الإنتاجية، لكونه متعلقاً بصناعة الإنسان بصورة مباشرة، فكل ما يمكن أن ينتجه هذا الإنسان في ميادين الحياة المختلفة ومجالاتها المتنوعة، لا يعدو- في مجمله- أن يكون إنتاجاً لحساب النساء، وثمرة من ثمار جهودهن المنزلية، ومساعيهن التربوية، فما تقدمه إحداهن من خدمة النوع، ورعاية النسل لا يقل بحال عن أعظم خدمة اقتصادية يمكن أن يقدمها رجل لمجتمعه.

وقد نجحت بعض الدراسات الاقتصادية في قياس إنتاج النساء المنزلي، وأهميته للدول النامية، ودوره الفعال في التنمية الاقتصادية الشاملة؛ حيث قدَّرت منظمة الأمم المتحدة جهدهن المنزلي في الدول المتقدمة بثلاثين ساعة أسبوعياً، واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحدد حجم إنتاجهن المحلي ما بين (20-25%) من الإنتاج العام، واستطاع بعضهم تقدير قيمة عمل المرأة في خدمة أسرتها بمتوسط دخل رجل يعمل خارج المنزل، مما دفع لجنة العمل الأمريكية عام 1971م إلى الاعتراف بعمل المرأة المنزلي دون أجر مالي، إلا أن ذلك لم يزل -عالمياً- خارج نطاق إحصائيات الإنتاج القومي العام؛ بل إنه لم يزل موضع استهجان واستنكار عند كثير من الباحثين العرب، بحجة كونه عملاً بلا أجر مالي، مغفلين تماماً المردود المعنوي والروحي لإنتاجهن الأسري، ومعرضين - في الوقت نفسه- عن شواهد التاريخ الإنساني في دور المرأة -أياً كان مستواها الاجتماعي والعلمي -منذ القديم في خدمة البيت ورعاية الأسرة، فلا يعترفون بجهدها الأسري مهما كان مثمراً واقتصادياً إلا إذا ترتب عليه أجر مادي، في الوقت الذي يُعترف فيه -للأسف- بجهد الفتاة الراقصة، وعارضة الأزياء، والممثلة، ونحوهن ضمن قوى العمل بحجة كونهن يتقاضين أجراً، وكأن تقاضي الأجر المالي هو الذي يحدد للعمل قيمته الأخلاقية، وجدواه الاقتصادية.

ولقد أدَّى هذا المفهوم الاقتصادي الجامح إلى بروز اتجاه نسائي حديث ضد العمل المنزلي، والتسخَّط من تبعاته، مع رغبة جامحة نحو العمل خارج المنزل، إلى جانب إخفاق الفتيات الشديد في حنكة التدبير المنزلي، وحسن صناعته، وأصبح جلُّ نزاع كثير من النساء العاملات مع أزواجهن في توزيع مهام الأعباء المنزلية، وقد أغفل هؤلاء النسوة أنه لا فرق غالباً في نوع الأداء بين عملهن في المنزل لصالح الأسرة وعملهن في الخارج لصالح المؤسسات الخاصة أو العامة إلا من جهة الأجر المالي؛ فإن إحداهن تنتقل "من الخياطة المنزلية إلى مصنع الملابس، ومن المطبخ العائلي إلى دور الخادمة في المقاهي، ومن السهر على العائلة إلى مهام الممرضة والمساعدة الاجتماعية"، ومن مسؤولية تربية أبنائها إلى تولي مهمة تربية أبناء المجتمع في المؤسسات التربوية، وهكذا… مما دفع بعض المنظمات والجمعيات النسائية الغربية إلى مطالبة الأزواج بدفع أجور لزوجاتهم مقابل عملهن المنزلي؛ إذ لا فرق بينهما من جهة الأداء، ومع كونه مطلباً شاذاً؛ فإن المرأة السوية في الغالب لا تقبل به، ومع ذلك فقد حسم نظام الإسلام الاجتماعي مبدأ استئجار الزوجة للعمل المنزلي بالمنع؛ ليقطع مثل هذه الأفكار والوساوس التي تُخرج طبيعة العلاقات الزوجية عن مبدأ التراحم والتعاون.

والعجيب في الأمر: أنه رغم هذه التوجيهات الاجتماعية الحادة ضد عمل المرأة المنزلي تكاد تجمع الدراسات الميدانية -المطبقة على الجنسين- الشرقية منها والغربية، القديمة منها والحديثة على أن عمل المرأة في بيتها هو الأساس في حياتها العملية والإنتاجية، مهما علت مكانتها الاقتصادية، وبرز دورها الاجتماعي، بحيث لا تنفك عنها مهمة العمل الأسري نفسياً وواقعياً إلا كما تنفك الروح عن البدن، مما يدل على أن هذه التوجيهات المخالفة للواقع الميداني لا تعدو أن تكون شذوذاً فكرياً، وعبثاً عقلياً لا حقيقة له، إلا أنه مدعوم -للأسف- بقوى جاهلية متسلطة تحتقر العمل المنزلي، وأناس يهدفون إلى خروج النساء بحجة توزيع الثروة بينهن وبين الرجال، فربطوا بين العطاء المالي وبين العمل خارج المنزل، ولو صدقوا فعلاً في مبدأ توزيع الثروة لأعطوا الزوجة نصيبها المالي وهي في بيتها -على الطريقة النبوية والخلافة الراشدة- دون تكليفها مشقة الخروج للعمل -على الطريقة الماركسية- في غير ضرورة اقتصادية ملحة.

إن من الضروري لصلاح وضع الأسرة التنموي: تعديل هذه النظرة الموحشة نحو العمل المنزلي من كونه أداء ساذجاً بلا أجر مالي، إلى كونه تكليفاً ربانياً، ومسؤولية إنسانية نسائية من الدرجة الأولى؛ بحيث يتوسع مصطلح "المرأة العاملة" من كونه محصوراً في العمل بأجر خارج البيت: إلى أن يستوعب كل أنواع الأداء المنزلي المعنوي منه والمادي ليشمل كل ذات نفع من ربات البيوت؛ فإن مفهوم الموارد البشرية في التصور الإسلامي يتناول "كل إنسان مصدراً للنفع، أو مكاناً للنفع، أو طريقاً إليه، أو يمكنه أن يكون كذلك"، بحيث يشمل هذا المفهوم كل عضو اجتماعي صغيراً كان أو كبيراً، شاباً أو شيخاً، صحيحاً أو ضعيفاً، طالباً أو عاملاً؛ فإن المعتوه أو المقعد أو المريض يمكن لكل منهم -بطريق غير مباشر- أن يذكِّرالأصحَّاء بنعمة الله تعالى عليهم، والصغير مورد بشري نامٍ يُنتظر منه العطاء، فيكونون جميعاً من هذه الجهة نافعين منتجين في التصور الإسلامي، ثم إن مفهوم العمل في المصطلح الاقتصادي: "يشمل كل الجهود التي يبذلها الأفراد، سواء كانت يدوية أم جسمانية أو ذهنية"، إضافة إلى أن الأعمال التي تقوم بها المرأة في منزلها لها ما يشابهها من الأنشطة الاقتصادية المعتمدة والمعترف بها في سوق العمل العام، فلا يُستهجن -والحالة هذه- في التصور الإسلامي أن تدخل ربة البيت، التي تعمل في خدمة أسرتها ضمن قوى العمل الاقتصادية، فيحسب جهدها المادي والمعنوي ضمن الإنتاج القومي العام.

إن من الضروري -إضافة إلى ذلك- الاهتمام بالفتاة مادياً ومعنوياً، بحيث تُدعم اقتصادياً عند حاجتها المادية دون تكليفها الخروج للعمل، وتُعلَّم وتُدرَّب على شؤون البيت ورعاية الأسرة لدعم حاجتها المعنوية، بحيث تكون تربيتها وإعدادها دينياً بكل أنواع المعارف النافعة لصالح الأسرة ورعاية النسل بالدرجة الأولى، قبل إعدادها لأي أمر آخر، فقد كان العديد من المدارس والمعاهد في بعض البلاد الغربية -إلى عهد قريب- تُقام من أجل تدريب الفتيات على التدبير المنزلي وشؤون الأسرة، فليس بغريب على المجتمع المسلم الذي يعتقد أن عمل المرأة في بيتها عبادة: أن يُعدَّ الفتاة للمنزل والأسرة، ويُهيئها معنوياً ومادياً لهذه المهمة الكبرى؛ فإن شؤون المنزل كانت موضع اهتمامات علماء المسلمين، وهي نوع من أنواع التَّعقُّل التي يسمونها بالتعقل المنزلي، أو الفلسفة العملية، أو التدبير المنزلي، وهي - مع ذلك- من أعظم وأوسع مجالات تفوق النساء وإبداعهن، حتى إن إخفاقهن الكبير في جميع مجالات التأليف العلمي مقابلة بإنتاج الرجال: يزول حين يكون التأليف في التدبير المنزلي وشؤون خدمة الأسرة؛ ففي الوقت الذي يهبط فيه إنتاجهن العلمي في المجال الاقتصادي العام إلى الصفر: يرتفع إلى (100%) إذا كان في مجال الاقتصاد المنزلي، حتى إن إتقانهن الشعري أفضل وأقوى ما يكون عندما يعبِّر عن تجاربهن الأنثوية في خدمة النوع ورعاية النسل.

إن مما ينبغي على الفتاة أن تدركه بعد هذا البيان أن المرأة محبوسة شرعاً لحق زوجها، وحقه عليها مقدم على قيامها بفرض الكفاية خارج المنزل، فهي "بطبيعتها قد هُيِّئت لتكون رفيقة الرجل في حياته، وسيدة منزلها أكثر من كونها كاسبة لقمة العيش، والرجل يبحث فيها عن سمات معينة مثل: الشخصية اللطيفة، والنظافة، والترتيب، والمهارات المنزلية، ويفضلها على سمات أخرى: كالذكاء، والتعليم"، فإن هي بخلت بالساعات تمضيها في خدمة بيتها: توجَّهت لعرض جهودها في سوق العمل العام؛ إذ لا بد لطاقتها من مستثمر، وميدان تُستهلك فيه، فلا بد أن يكون هذا التصور ماثلاً في ذهن الفتاة وهي تتعامل مع متغيرات الوضع الاجتماعي والاقتصادي المعاصر.