إن من أهم الفوائد التي تعكسها التنمية الاقتصادية العائلية: ربط عمل الفتاة وإنتاجها بالبيت، حيث الأمان الخلقي، والاستقرار النفسي اللذان تنشدهما الفتاة فطرياً بصورة ملحة، حتى وإن قامت بالمهن والوظائف العامة فإن حنينها للبيت، وسعادتها النفسية به لا يقوم له شيء مما هو خارج عنه مهما كان جليلاً، وهو على أقل تقدير نهاية مطاف المرأة العاملة على كل حال، كما يراه المتزوجون من الجنسين.
وقد دلَّ العديد من الدراسات -العربية والأجنبية- على وجود نفرة فطرية في نفوس الإناث نحو كثير من متغيرات الحياة العامة المألوفة خارج البيت: كالازدحام في الأسواق، ودخول الأماكن المغلقة، والسفر، والصحراء، والأماكن البعيدة، والسير بالليل، والجلوس في الشوارع، والبرق والرعد، في حين أنهن أكثر قبولاً للوحدة المنزلية، وأكبر تكيفاً معها من الذكور، الذين يتفوقون عليهن بصورة كبيرة في تعاملهم مع المتغيرات الخارجية: الجغرافية، والمساحية، والميكانيكية، والعجيب أن هذا الاختلاف في التوجه الفطري يلازم الجنسين حتى في الرؤى والأحلام: فتنطبع رؤى الذكور بمتغيرات المحيط الخارجي، وتعكس رؤى الإناث الجو العائلي، والمحيط المنزلي.
ولقد استقر عبر أطوار التاريخ الإنساني الطويل، ومروراً بالحضارة الغربية المعاصرة، التي فتحت آفاق العمل للمرأة بغير حدود: أن الرجل لم يزل عماد الحياة الاقتصادية العامة، وهذا استجابة منه لنداء الفطرة في تكوينه الجسمي، الذي جعله أكثر تفرغاً واستعداداً للعمل الخارجي، في حين كان للفطرة دورها في ارتباط المرأة بالبيت، لما يعتريها من الدورات الفسيولوجية الطبيعية، وما أنيط بها من أدوار أسرية ضرورية في الإنجاب، ورعاية النسل، فهي مهيأة بالفطرة للقيام بالأدوار والأعمال الداخلية، والرجل مهيأ بالفطرة للقيام بالأدوار والأعمال الخارجية.
وقد أكَّد هذا التوجه العديد من الخبراء وروَّاد البحث الميداني -المحلي والعالمي- الذين صرَّحوا بصورة قاطعة: أن البيت أنسب ميادين الفتاة، فما أن تتجاوز إحداهن مرحلة البلوغ حتى تصبح أكثر تقبلاً للوحدة، ويقل عندها الخوف والاكتئاب، وتتوجه نحو الاستفادة بصورة إيجابية من وحدتها وفراغها، فلا يكون البيت بالنسبة لها أزمة اجتماعية أو مشكلة نفسية، لما يدعمها من رصيد الفطرة الأنثوية، ومع كل هذا فلا يزال الصراع في هذه القضية قائماً في هذا الجيل، تتنازعه فئات من الناس، ولا يمكن حسْمُهُ إلا من جهتين:
الأولى شرعية: من حيث التوجُّه الديني الواضح في ربط الإناث الحرائر بالبيوت، ولفت أنظارهن واهتماماتهن إليها، وقطع صلاتهن بالخارج إلا من حاجة؛ بحيث يمكن لإحداهن أن تبلغ أعلى درجات الكمال الروحي والخلقي وهي في قعر بيتها، ولهذا كان فقيه الصحابة عبد الله بن مسعود t "يُخرج النساء من المسجد يوم الجمعة"، رغم أنه قد أذن لهن في المساجد، وما هذا إلا لكون البيوت أسلم وآمن، وأقرب إلى الله بالنسبة للنساء، بل إن الرجل في بعض الأحوال مأمور بلزوم البيت إلا عن ضرورة أو واجب، فقد سأل عقبة بن عامر t رسول الله r فقال:(يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، ولْيسَعْك بيتُك، وابْك على خطيئتك), قال الطيبي في شرح هذا الحديث: "أي تعرض لما هو سبب للزوم البيت، من الانشغال بالله، والمؤانسة بطاعته، والخلوة عن الأغيار"، فإذا كان الرجل مأموراً بلزوم بيته، ولاسيما زمن كثرة الفتن والمفاسد الاجتماعية، فكيف بحال المرأة التي نُدبت للزوم البيت في أفضل الأزمنة وأحسنها؟ حين كان الرسول r يحث النساء على الصلاة في بيوتهن، ويقول: "… بيوتهن خيرٌ لهن"، فلا شك أنهن أولى بلزوم البيوت من الرجال، ولعل من ألطف ما يُنقل من صور التشبيه بين عالم الإنسان وعالم الحيوان: ما قاله الزبيدي: "أخذ على النساء ما أخذ على الحيات أن يحتجزن في بيوتهن"، ومن هنا فلا يُحمد خروج المرأة في حال من الأحوال حتى في أطهر المجتمعات، إلا في حدود الرخصة الشرعية، وضمن حالات استثنائية، بما لا يخل بوظيفتها الأصلية، وبما لا يهدم القاعدة الرئيسة في نظام الاجتماع الإسلامي الذي يربط عمل الفتاة بالبيت؛ ولهذا لا يجب على المرأة معونة زوجها في الخدمة خارج بيتها إجماعاً، ولو مُكِّن النساء العاملات من ممارسة أعمالهن من داخل البيوت لما اخترن الخروج، ففي ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية يعمل (25%) من النساء عن طريق منازلهن، عبر فرص العمل التي تتيحها شبكات الحاسب الآلي.
الثانية واقعية: من حيث الارتباط الوثيق بين خروج الفتيات وانتهاك الأعراض، فقد أصبح في كثير من البلاد: مجرَّد الخروج من حصن البيت - ولو كان لغرض شريف- فرصة للاقتناص دون تمييز كبير بين المناطق العامرة بالحركة، أو المناطق المعزولة؛ بحيث تُقدَّر حدَّة الخطر على شخص الفتاة بقدر بعدها عن المنزل، فقد يكون مجرد زمن انتقالها من البيت إلى المدرسة، أو حتى إلى المسجد فرصة للجريمة، فإن الإحصائيات العالمية المسجلة حول العنف والاغتصاب الموجه نحو النساء شيء مذهل، هذا ما عدا ما يمكن أن يستهويها خارج البيت من ملذات الحياة العامة وانحرافاتها، التي يمكن أن تنساق نحوها بطواعية.
إن المتأمل يجد أن السبب الرئيس في زهد كثير من الفتيات في المكوث في البيوت، ورغبتهن الجامحة في الخروج، لمجرد الخروج: هو ضعف جاذبية المنزل الحديث، الذي لم يعد في هذه العصور المتأخرة مكاناً مناسباً لقضاء الوقت، بعد أن ضاقت على الناس بيوتهم، وتكدَّست فيها أجسادهم، وحُبسوا في صناديق خرسانية يعلو بعضها بعضاً، حتى استلطفوا الشوارع والمقاهي والمنتزهات والأرياف، يعوِّضون بها ما فاتهم في بيوتهم من الأنس بالطبيعة الفطرية، والانطلاقة البدنية، حتى إن مجرد التنقل من مكان إلى آخر أصبح هدفاً في حد ذاته لكثير من الناس.
ولقد تجاوزت عبقرية العمارة الإسلامية في تاريخها السابق هذه المشكلة في التخطيط العمراني حيث كان نظام التوسع الإنشائي أفقياً وليس رأسياً، فقد كان البيت من دور أو دورين على الأكثر، في وسطه فناء زراعي مفتوح إلى السماء يتوسط الغرف السكنية، ويسمح للجميع بالحركة، واستعذاب الماء، فلا يجد النساء والفتيات ضيقاً من المكوث الطويل فيه، فيعملن وينتجن ويستمتعن داخل بيوتهن في غير حرج، ولعل في إعادة النظر في النظام العمراني الحديث بما يكفل ربط المنزل بالطبيعة الفطرية ما يساعد بصورة كبيرة على جذب اهتمام الفتيات نحو البيوت، والأنس بسكناها في غير حرج أو ضيق.
إن هذه الانطلاقة الداخلية للاقتصاد العائلي التي نتبناها ليست بدعة اقتصادية أو مذمة نسائية؛ بل هي مصلحة اقتصادية ومكرمة نسائية، فما زال الاقتصاد العائلي باباً واسعاً للرزق، وما زالت البيوت حصوناً للفتيات من الضياع؛ فقد ارتبطت الإناث فطرياً بالبيت ارتباطاً يصعب انفصامه إلا عند انتكاس الفطرة، وذهاب معالمها، حتى إنهن في الجنة -رغم انقطاع التكليف- محصورات في الخيام حصر تكريم وإجلال، فهذا هو اللائق بهن دائماً في الحياة الدنيا وكذلك في الآخرة، فلا يجوز -بناء على ذلك- أن يُستنكر هذا التوجه الاقتصادي نحو التنمية والاستثمار العائلي من داخل البيوت.