22ـ مجال الفتاة التنموي في الثروة الزراعية

يأتي دور الفتاة في ميدان التنمية الزراعية وما يلحق بها من الاستثمار في الحيوانات الداجنة في المرتبة الثالثة بعد الخدمة الأسرية والصناعة المنزلية؛ إذ لا يُتاح هذا الميدان عادة لغير فتيات الريف، ومع ذلك فإن ميدان الزراعة بالنسبة لعدد الفتيات اللاتي يمكنهن مزاولتها في غاية الأهمية، إذ إن (70%) من النساء العربيات يسكن الريف الإسلامي، بل إن غالب الناس -إلى عهد قريب جداً- لاسيما في الدول النامية يعيشون في الأرياف، ومن هنا تأتي أهمية هذا النوع من ميادين التنمية الاقتصادية للفتاة المسلمة وللأسرة عموماً.

ولقد اهتم نظام الإسلام الاقتصادي بالتنمية الزراعية غاية الاهتمام فجعلها من أفضل أنواع المكاسب والحرف، ومن أحب مجالات الإنفاق المالي، وباباً من أبواب الأجر والثواب، ووسيلة مشروعة لامتلاك الأرض، وكان رسول الله r يحث عليها ويقول لأصحابه:(من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه..), وفي الجانب الآخر هدَّد المفرطين والمهملين فجعل قطع الشجرة النافعة جريمة يُعاقب عليها فاعلها يوم القيامة.

ولقد دفع هذا التوجيه النبوي المجتمع المسلم للاهتمام بالثروة الزراعية، وإحياء الأراضي من حيث: إجراء المياه، وإصلاح الأرض، وتوفير الأيدي العاملة، وإعطاء المُزارع حرية أكبر في نشاطه الاستثماري، ودعمه بالقروض الحسنة، وإسقاط الخراج عنه زمن الأزمات، ونحو ذلك من أسباب الدعم حتى يكون عطاؤه أكبر ونشاطه أوفر، وقد كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t لأحد عماله يقول: "ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً".

ولقد أسفر هذا الاهتمام البالغ أن أصبح الريف الإسلامي قوام الحياة الاقتصادية للأمة، وأوسع ميادين نشاطها الاقتصادي، ومازال كذلك عبر التاريخ الإسلامي، حتى إنه - إلى عهد قريب- كان يستوعب جلَّ الأيدي العاملة المسلمة، ويسمح لهم -أفضل من أي ميدان آخر- بامتلاك المساكن والأراضي، حتى إن ربع الأراضي الزراعية في بعض أرياف المسلمين تعود ملكيتها إلى النساء، والعالم الإسلامي يتصف "إجمالاً بارتفاع نسبة العاملين في النشاط الريفي من رعوي وزراعي"، حيث يسهم فيه ضعفاء المجتمع، من الأطفال والنساء والمسنين؛ لكونه قطاعاً لا يتطلب مشقة كبيرة، إلا أن إنتاجيَّته اليوم، وتلبيته لحاجات المجتمع الاستهلاكية أضعف بكثير مما كانت عليه في السابق، حتى إن دخل المُزارع الأمريكي يفوق مثيله الأندونيسي بعشرين ضعفاً، وهذا يرجع إلى مفاسد دينية، وسياسية، وإدارية أكثر بكثير من رجوعه إلى مشكلة الأراضي أو الأيدي العاملة، ومع ذلك "يعتبر القطاع الزراعي في الدول العربية من القطاعات الرئيسة التي تسهم في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وعلاوة على ذلك فإنه يعتبر رافداً مهماً للصناعات الغذائية المرتبطة بالإنتاج الزراعي، كما يوفر هذا القطاع فرص عمل لعدد  كبير من العمالة العربية، ويشكِّل مصدراً رئيساً لدخل قطاع عريض من سكان الدول العربية"، وإضافة إلى كل هذا تبقى الزراعة وسيلة الأمة المستضعفة للاستغناء عن غيرها، وتأمين غذائها؛ فإن الفقراء ينفقون ما بين (50-70%) من مدخولهم على الغذاء.

ورغم هذا الخلل الاقتصادي الذي يعانيه قطاع الزراعة في الوطن الإسلامي، فإن المجتمع الزراعي - مع ذلك- مجتمع تربوي من الدرجة الأولى، يبرز فيه عمل الفتاة المنتجة اقتصادياً دون حرج، ويكتمل فيه دورها التربوي دون تعارض بين العمل في الحقل العائلي المحلي وبين الرعاية الأسرية، ويظهر فيه إٍسهامها التناسلي في ارتفاع نسبة خصوبتها لتماثل مستويات الفتيات غير العاملات من ساكنات المدن، مما يدل على أن النشاط الزراعي لا يتعارض مع مسؤولية الفتاة في خدمة النوع ورعاية النسل.

ومن هنا ارتبطت الزراعة بالمرأة منذ فجر التاريخ الإنساني، حتى نُسب إليها مبدأ اكتشافها، وما زالت كذلك عبر التاريخ الإسلامي تتعاطاها عملاً وإنتاجاً ومعرفة، دون حرج اجتماعي أو خلقي يفوِّت عليها أمراً في دينها أو دنياها، وقد أطبقت الدراسات الاقتصادية الحديثة على أن القطاع الزراعي بميادينه المختلفة -البدائية والمتطورة، العلمية والعملية- يستوعب جلَّ أيدي النساء العاملات في البلاد الإسلامية، ويستغل غالب إسهاماتهن التنموية،مما يجعل من هذا القطاع ميداناً مهماً للنهوض باقتصاديات الفتاة المسلمة وأسرتها، ومن ثم إنعاش الاقتصاد القومي العام، مما يتطلب بالتالي دعماً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً عاماً لهذا القطاع الحيوي المهم.

وهذا الدعم المطلوب للقطاع الزراعي في البلاد الإسلامية النامية ليس قضية اختيار اقتصادي خاضع للرد أو القبول، إنما هو شرط ضروري للتنمية الشاملة التي تقوم قواعدها -قبل كل شيء- على أسس متينة من النهضة الزراعية؛ فإن التفوق الزراعي يسبق عادة التقدم الصناعي؛ فعالم الغرب -في نهضته الحديثة- كرَّس أعظم جهوده في التنمية الزراعية؛ لتكون قاعدة صلبة لتقدمه الصناعي، حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين الميلادي استغلت (90%) من القوى العاملة -ذكوراً وإناثاً- في مشاريع التنمية الزراعية، وما زالت دول الغرب واليابان وكوريا حتى اليوم تهتم بالزراعة وتنميتها لتبقى مصدراً للثروة المالية والهيمنة الاقتصادية، تسبق وترافق النهضة الصناعية الحديثة لهذه الدول وتؤسس لها، وكأن الثروة الزراعية هي الأساس في صلاح الدنيا وعمارتها، فإن رسول الله r لم يقل في أمر من الأمور: "أنتم أعلم بأمر دنياكم": إلا في شأن الزراعة، فهي من أهم أمر صلاح الدنيا.

وعلى الرغم من التوجه المفرط نحو الصناعة الذي يتبناه بعضهم، مع الاعتقاد بعدم جدوى القطاع الزراعي في النهوض بالأمة الإسلامية اقتصادياً، فإن التوجه نحو التصنيع في الدول الإسلامية لا يقلل "من أهمية الزراعة كأساس لاقتصادها القومي؛ بل إن أهميتها تتزايد باستمرار تبعاً لتزايد السكان وتزايد الطلب على الغذاء وعلى كثير من المحاصيل الزراعية، وحتى مع التسليم بأهمية التطور الصناعي، وضرورته للبلاد الإسلامية، فإن من الواجب ألا يكون هذا التطور على حساب التنمية الزراعية، بل يجب أن يسير الاثنان جنباً إلى جنب".

ومن هنا كان من اللازم اتخاذ التدابير العلمية اللازمة لدعم هذا القطاع الحيوي المهم وتطويره: بتوفير المياه، وإصلاح الأرض، ودعم العمالة -ذكوراً وإناثاً- مع تزويدهم بالخبرات الحديثة اللازمة، إلى جانب توزيع الأراضي بصورة عادلة،بحيث يكون للنساء والفتيات في هذا التوزيع نصيب كما فعل رسول الله r، مع إشراكهن بصورة عامة في امتلاك الأراضي عن طريق إحيائها حسب النهج النبوي في هذا الشأن، بحيث ينطلق هذا الدعم من مفهوم التنمية الزراعية المستدامة، التي تتضمن تلبية حاجات الإنسان بصورة مستمرة دائمة دون إضرار به، أو بالبيئة من حوله، مما يؤدي بالتالي إلى الاستقرار الذي تتطلبه التنمية الزراعية وتؤدي إليه، بحيث تتوطَّن أسرة الفتاة الريفية في موقعها تعمل وتنتج، فلا تضطر إلى معاناة أزمة الانتقال إلى المدن الحضارية بحثاً عن موارد اقتصادية أوسع.