يربط بعض المتحمسين بين عمل المرأة بأجر في مؤسسات المجتمع العامة وبين النهضة الاقتصادية؛ حيث يعتبرون التوسع في حجم مشاركتها في أنشطة الحياة العامة مؤشراً إيجابياً للتقدم والنهضة، وعلى الرغم من أنه لا يُوجد دليل واضح وصريح على صحة هذا الربط، إلا أن المتأمل يجد أن الواقع المعاصر يشهد بنقيض هذا؛ إذ إنه لم يسبق في التاريخ أن شاركت النساء بهذه الأعداد الكبيرة في الحياة العامة، وأسواق العمل كمشاركتهن في هذا العصر، ومع ذلك تشير الإحصاءات المتواترة بأزمات اقتصادية تطوق القارات الست - بدرجات مختلفة- إضافة إلى أن نصف سكان العالم من الفقراء، وأكثرهم من النساء والأطفال.
ومن الغريب أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي عاشها غالب دول شرق آسيا - ولا تزال تعاني آثارها– كانت نسبة العمالة النسائية في بعض هذه الدول زمن الأزمة 60% تقريباً، فهل هناك علاقة خفية بين كثرة العمالة النسائية وهذه الأزمة؟ مع عدم إغفال الأسباب الأخرى التي شاركت في صناعة هذه الأزمة.
يرى بعضهم ضرورة التوسع في مشاركة النساء في أسواق العمل حتى تستطيع إحداهن أن تسد حاجاتها الضرورية إن كانت عانساً، أو أرملة، أو معيلة لأولادها، أو متزوجة تعين زوجها، إلى غير ذلك من الأسباب التي تدفع المرأة مضطرة إلى العمل، إلا أن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة من بعده يجد أن القيادة السياسية لم تكن تلزم النساء بالكسب، مهما كنَّ فقيرات، وإنما يُعطين ما يسد حاجاتهن من خزينة الدولة، ولا يقال للمرأة : اذهبي فاعملي كما يقال لها اليوم، في حين يُلزم الرجل بالعمل للكسب، مادام قادراً "اذهب فاحتطب"، فمن القبيح أن لا تُعطى المرأة المحتاجة المال إلا مقابل عمل تقوم به، كما أن من القبيح أن يُعطى الرجل الخامل المال وهو قادر على العمل والكسب.
يظهر من بعض البحوث توجه واضح نحو فتح المجالات العامة لتشغيل النساء، حيث انشغلت بعضها بإيراد الأدلة على صحة هذه الوجهة، والسؤال الذي يطرح نفسه : ما هي الضمانات التي يقدمها المتحمسون للمجتمع السعودي في الحفاظ على نسائهم من الاختلاط، والخلوة، والفتنة بعد أن شاهد المجتمع بأكمله إخفاق المؤسسة الصحية بأكملها في هذا الجانب، حتى إن الشخص المسلم ليعُد نفسه شخصاً آخر حين يدخل المستشفيات والمراكز الصحية، وقد أصبح - للأسف- هذا الانفلات الخلقي في المؤسسة الصحية دليلاً يلوِّح به المتحمسون في وجه المانعين للاختلاط، وكأنه مؤشر صحي، وتجربة ناجحة، في حين لو راجع هؤلاء تاريخ الأمة المسلمة، ونظام البيمارستانات فيها، لعلموا أن المستشفيات قامت منذ أواخر القرن الهجري الأول، وتطورت بصورة مذهلة عبر سنوات طويلة حتى العهد العثماني، وكان نظامها الفصل الكامل بين الجنسين، وإنما كان الاشتراك في الطبيب فقط، لعدم وجود طبيبة في أنظمتها، وذلك ضمن ضوابط سلوكية وأخلاقية تفتقر إليها المؤسسة الصحية اليوم.
إن المناداة بفتح مجالات العمل بأنواعها المختلفة للمرأة السعودية بما لا يتعارض مع شريعتنا وعاداتنا وتقاليدنا : تكاد تكون عبارات مكرورة بلا معنى، فأين الشريعة والعادات والتقاليد في عمل النساء في المستشفيات وفي وسائل الإعلام، وفي كليات الطب ونحوها، ثم أين النموذج الحضاري في العالم من حولنا الذي نقتدي به في فتحنا باب تشغيل النساء في كافة الميادين، وهل يمكن لنا في ظل العولمة، والضغوط العالمية أن ننشئ لنا نموذجاً إسلامياً منفرداً يجاري الواقع ويحافظ على الثوابت، يكاد يكون مثل هذا الكلام خيالاً لا حقيقة له، فهذه الدول الإسلامية والعربية لم تستطع - في غالب أحوالها - أن تتجاوز النموذج الغربي في تشغيل النساء، فأنى لنا بكل ضعفنا أن نفعل ذلك ؟ ولعل ظهور جمع من النساء السعوديات حاسرات عن رؤوسهن في منتدى جدة الاقتصادي 1425ه يدل بوضوح على أن النموذج الغربي للانفتاح الاقتصادي هو الذي ينتظر المرأة السعودية، وليس هذا النموذج الإسلامي الخيالي الذي يرسمه لنا دعاة الانفتاح.
إن حصول المرأة على شهادة علمية لا يكفي ذريعة للمطالبة بالعمل فهي بكل حال مكفولة النفقة شرعاً، وإنما العمل ضرورة - مع وجود الشهادة أو بغيرها - لمن كلَّفهم الله تعالى النفقة والقيام على الأسر، من الرجال والشباب, إلا أن المرأة حين لا تجد من ينفق عليها فإن من حقها أن تدفع عن نفسها الضرر, وتتخذ الأسباب المشروعة للكسب وطلب الرزق.
ومن الغريب أن يقابل بعضهم بين ثروات الرجال وثروات النساء، ويتمنى لو تساوى النساء بالرجال في ثرواتهن، لهذا يتنادى بتمكين النساء اقتصادياً، ومن العجيب فيما تشير إليه إحدى الإحصاءات أن (85%) من الدخل القومي العالمي يُصرف عبر أيدي النساء ربات البيوت، بمعنى أن ثروات الرجال سائرة إلى النساء والذرية، فدعم الرجل اقتصادياً هو دعم للمرأة وأولادها، في حين أن دعم المرأة اقتصادياً يقتصر غالباً على نفسها لعدم تكليفها شرعاً بغيرها.
ويعتبر بعضهم أن إنجازات ماليزيا وكوريا ونحوهما من دول شرق آسيا مثالاً يُحتذى في النهضة الحديثة، ومع صحة هذا الاعتقاد في بعض جوانبه إلا أنه لم يتضمن الحقيقة كلَّها فإن جزءاً ضخماً من النهضة الاقتصادية المسجلة لهاتين الدولتين كان على حساب الأسرة والمرأة والطفل، مما انعكس سلباً على السلوك، فظهرت صور من الانحرافات والمآسي في التفكك الأسري، والتمرد العائلي، والانحطاط الأخلاقي, لذا فإن درجات النمو الاقتصادي ليست كافية وحدها للحكم بالنجاح, بل لابد معها من معايير أخرى إيمانية وأخلاقية, وهذه المعايير مفقودة في النماذج الجاهلية للنهضة الحضارية.
في حين أن نهضة الأمة الإسلامية في عصور عافيتها لم تعرف هذه السلبيات الأخلاقية والأزمات الأسرية؛ وذلك لأنها لم تعتمد في نهضتها على النساء؛ إذ كانت الأمة تحترم التخصص بين الجنسين، وتولي البيت والأطفال الأهمية الكبرى.