11ـ تربية الفتاة على حسن التدبير المالي

يرتبط مفهوم الاقتصاد بحسن إصلاح المال، وتدبير الثروات الفردية والاجتماعية بين مذمَّتي الإسراف والتقتير من جهة: الإنفاق، والادخار، والتنمية، والتوزيع، فقانونه العام هو التوازن بين الدخل والإنفاق، وهو عند الفرد مرتبط- إلى حد كبير- برشده العقلي وحسن أدائه؛ "بمعنى أن يتصرف لتحقيق أكبر قدر من منفعته الشخصية في حدود ظروفه الاقتصادية المتاحة، ويُعتبر هذا الفرض هو الأساس الأول الذي يُبنى عليه  علم الاقتصاد بجميع اتجاهاته الفكرية"، ولهذا جُعل الاقتصاد في الأمور القولية والفعلية جزءاً من النبوة، وعلامة دالة على رجاحة العقل، وكمال الفهم، ووسيلة حسنة لدفع الفقر، وفي الخبر: "ما عال من اقتصد"، والمراجع للسنة النبوية يجدها حافلة بالتوجيهات الكثيرة الرامية للتدبير والاقتصاد والاعتدال، ففي "الوقت الذي يعتبر الإسلام الاستهلاك عبادة شرعية فإنه يسعى - في الوقت نفسه - إلى تنظيمه ضمن ضابط الوسط، ويربط بينه وبين ظروف المجتمع، ويحدد نوع السلع والخدمات التي يجوز استخدامها، ليصل في النهاية إلى السلوك الراشد، الذي يشكِّل الزهد جانباً كبيراً من مضمونه".

وقد شهد التاريخ الإسلامي مصداق ذلك من واقع الحياة العملية فقد كان التبذير المالي على أيدي النساء سبب هلاك كثير من الأسر الغنية، وذهاب ثرواتها، كما أن ضبطهن المالي وحسن تدبيرهن كان - في الجانب الآخر- لبعض الأسر عصمة من الفقر وذل الحاجة، وصدق عمر بن الخطاب t إذ يقول: "الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز؛ إنه لا يبقى مع الفساد شيء، ولا يقلُّ مع الصلاح شيء"، وفي هذا يقول المولى U منبِّهاً إلى الاعتدال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء:29].

ومن هذا المنطلق المهم تظهر أهمية تربية الفتاة على حسن التدبير المالي، وتهذيب نفسها بآداب التخلية والإمساك خاصة إذا عُلم أن (85%) من الدخل القومي العالمي يصرف عبر أيدي ربات البيوت؛ ولهذا أخذ عليهن رسول الله r ألا يغششن أزواجهن بسوء تصرفهن المالي، ومع ذلك فقد كان نساء ذلك الزمن - في العموم- ممن يُعوَّل عليهن في ضبط الاقتصاد المنزلي، وحسن التدبير المالي، في حين خفَّ الضبط كثيراً في نساء وفتيات الأزمنة المتأخرة والمعاصرة من حيث مظاهر الترف: في الملابس، والزينة، والحفلات، وسوء التدبير العام، حتى أصبحت العلاقة واضحة بين زيادة دخل الفرد، وبين إنفاقه على الكماليات، حيث طغت العوامل النفسية بمظاهرها الفنية والاستعراضية على حاجات الفرد الفسيولوجية الفعلية، وأصبح السلوك الاستهلاكي طابعاً عاماً له، ولاسيما في سلوك المرأة العاملة، التي كثيراً ما تستهلك ما تنتجه بصورة كبيرة في الكماليات الزائدة غير الضرورية، حيث يبلغ تأثير النساء قمته فيما يتعلق بقرارات الاستهلاك الأسرية، وينخفض إلى أقل درجة فيما يتعلق بالشؤون العامة، فليست لغالب النساء قضية أو اهتمام إلا ما كان متعلقاً بمتعهن وملذاتهن الاستهلاكية.

إن ميدان الإسراف في الزينة بمظاهرها المختلفة أعظم ميادين الصراع التربوي، وأشد مواقع انهزام النساء، فما زال الإفراط في الزينة منذ القديم باباً واسعاً للتبذير، ومجالاً اقتصادياً رحباً للاتجار؛ فإن "أروج تجارة في العالم هي تلك التي تتصل بكل ما تلبسه المرأة وتتزين به وتتجمَّل في مختلف أطوار حياتها"، حيث يشنُّ المنتجون الاستغلاليون حملاتهم الدعائية المسعورة على المستهلكين عبر وسائل الإعلام المختلفة، مستخدمين في ذلك المشاهير من النجوم؛ لإقناعهم بحاجتهم المستمرة للشراء، منطلقين في ذلك من شهوات الإنسان، لاسيما شهوتي  الفرج والبطن، فيفتنونهم بالصورة الحسنة، والمعروضات الجميلة المنمَّقة، ويصبح الشباب -في كل ذلك- أكثر فئات المجتمع تأثرًا وانصياعاً لهذه الإعلانات الدعائية، حيث تكوِّن في نفوسهم مواقف إيجابية تجاه السلع المعلن عنها، وتكون الموضة، والعلامة التجارية، وأسلوب العرض، والألوان أكثر المتغيرات تأثيرا في الإناث، وأبلغها استهواءً لهن، ومن ثمَّ تقوم أنظمة البنوك الحديثة من خلال بطاقات الائتمان بمسايرة المستهلكين المفتونين في تحقيق رغباتهم الاستهلاكية بصورة مستمرة ومباشرة؛ لذا فإن أعظم ساحة للإعلان التجاري هي تلك الساحة التي تتصل باستهواء الفتيات، واستغلال جوعهن إلى الزينة، كما أن أشد ما يرهق ميزانية الأسرة، ويثير المشكلات هي تلك المصروفات المتصلة بالزينة، وحتى الفتاة العاملة التي لا تعتمد على أسرتها أو زوجها في نفقات زينتها؛ فإن عملها لا يزيدها إلا استهلاكاً للملابس، والحلي، ومستحضرات التجميل.

إن من الضروري -والحالة هذه- أن تتربى الفتاة المسلمة المعاصرة على أن الإنفاق نوعان أحدهما مشروع والآخر ممنوع، كما أن الكسب فيه ما هو مباح، وفيه ما هو محرم، فلا يكفي الفتاة عذراً أن تكون منتجة فتستهلك وتنفق كيفما تشاء، كما أنه لا يُعفيها أن تكون غنية فتتصرف في ملكها دون حساب؛ إذ إن الثروة في التصور الإسلامي - مع ما فيها من الاستمتاع- ابتلاء رباني، ومسؤولية اقتصادية من جهة الكسب ومن جهة الإنفاق، وضابط الفتاة في كل هذا ليس حجم الإنفاق -قليلاً أو كثيراً- وإنما موقعه من الحق أو الباطل، بحيث يصبح في حسها أن كل إنفاق -مهما كان حقيراً - في غير وجهه فهو ممقوت، ولا يكون ضابطها أيضاً العادة المُستحكمة التي تفرض نفسها عليها لا لكونها حاجة تتأذى بنقصها، ولكن لمجرد كونها عادة اعتادت الإنفاق عليها.

ولما كان عامل "الادخار هو الفرق بين الدخل والاستهلاك"، فإن من الضروري إحياء القيمة التنموية لهذا العامل، لما تعكسه هذه القيمة من آثار إيجابية على اقتصاديات الفتاة وأسرتها، بحيث تصبح هذه القيمة جزءاً أصيلاً من تكوين شخصية الفتاة: من جهة القناعة الفكرية، ومن جهة السلوك الاستهلاكي، فتعرف وتراعي مراتب الأحكام الخمسة في استخدامها المالي: الواجب، والمستحب، والمباح، والمكروه، والمحرم، فلا يكون إنفاقها إلا في منفعة ومصلحة، وما بقي فللادخار والاستثمار.

إن تربية الفتاة على هذا النمط الاقتصادي المنضبط هو حجر الزاوية في التنمية الاقتصادية العائلية، فقد أثبتت التجربة براعة الفتيات الحاذقات في إدارة الاقتصاد الأسري، وفي الجانب الآخر، فإن إهمال تربيتها على الضبط المالي وحسن تدبير الثروة ينعكس سلباً على اقتصاديات الفتاة وأسرتها، فتصبح أداة تخريب اقتصادي،  وتدمير عائلي، وبالتالي تصبح أسرتها معول هدم لاقتصاد البلاد العام.