4ـ حق الفتاة الاقتصادي في ترك الكسب

لما كانت الفتاة عضواً اجتماعياً مكفولاً -كما تقدم- فقد أعفاها الشارع الحكيم من السعي في طلب الرزق، حيث جعله مهمة رجولية تقابل قيامها بخدمة النوع، وتفرغها لصناعة الإنسان؛ بحيث لا تكلَّف الكسب مطلقاً، مهما كانت ظروفها الاقتصادية قاسية، فإن تكلَّفته بضوابطه الشرعية: فإنما هو نافلة تتنفَّلُ بها،  لا تجبر عليها، فما زال الرجال عبر التاريخ الإنساني هم مورد المرأة الاقتصادي، وما زالت حاجتها إلى الأسرة للأمان الاقتصادي أكبر من حاجة الرجل، فالذكورة" صفة من صفات العجز إذا نظرنا إلى جدواها في عمل الأنوثة، والأنوثة صفة من صفات العجز إذا نظرنا إلى جدواها في ميدان الكسب".

وليس هذا التوجه الاقتصادي خاصاً بالحرائر من النساء؛ بل إن الأمة الساذجة، التي لا تحسن صنعة شريفة: تدخل ضمن هذا التوجه الملزم، وذلك كله حفاظاً على أخلاق الفتيات من الانهيار بتعرضهن لكدح الكسب، فليست الأعمال دائماً تناسبهن، خاصة إذا زاد الطلب وقل العرض، وباعتبارهن إناثاً فهن دائماً موضع مطمع لأرباب الأعمال، والفاحشة عند الفقيرات الضائعات أرخص وأسهل مكاسبهن الاقتصادية، خاصة وأن الفقر والحاجة فيهن أسرع وأبلغ، فلو جاز للأب  أن يؤاجر أولاده الذكور إذا بلغوا الكسب، فإنه لا يصح منه ذلك مع بناته لما فيه من تعريضهن للفساد؛ إذ هن دائماً في مأمن من مكابدة الرزق، والتعرض لمخاطر الكدح؛ ولهذا حرَّم رسول الله r كسب الإماء مطلقاً، حتى يُعلم مصدره.

وقد ظهرت واضحة الحكمة الإسلامية في كفِّ النساء عن الكسب حين أدركت المجتمعات غير الإسلامية أخيراً سلبيات اشتغال النساء على نظام الأسرة والمجتمع من جهة، وعلى الأخلاق والقيم من جهة أخرى، وحتى الجانب الاقتصادي الذي قُصد إنعاشه بأيدي النساء العاملات لم يزدد إلا تعثُّراً واختلالاً، حتى غدت العلاقة قوية -بصورة غير مباشرة- بين وفرة النساء العاملات وبين الانهيار الاقتصادي، وما أدلَّ على ذلك من الانهيار الاقتصادي السريع للدول الشيوعية التي توسعت أكثر من غيرها في استخدام النساء، فكان نصيبها في النهاية الإخفاق الاقتصادي، وما نتائج هذه العلاقة ببعيدة عن كل نظام اقتصادي يبني توجهه التنموي على ما يخالف الفطرة السوية، ولا يفرق في تعامله بين أدوار الذكور وأدوار الإناث.

ورغم هذا الوضوح الواقعي، والتوجه الشرعي: فإن فئات من المجتمع المسلم لا تزال تصرُّ على إلزام النساء والفتيات بالكسب، وخوض معترك صراع سوق العمل، بحجة الاستفادة من نصف المجتمع المعطَّل، والقيام بواجب المشاركة في التنمية الوطنية الشاملة، والحد من استخدام العمالة الأجنبية، والاستمتاع بحق العمل، مدعومين في كل ذلك بالمؤتمرات العربية والعالمية، والمنظمات التربوية المشبوهة، ووسائل الإعلام المنحازة، وكأن الفتاة المسلمة هي المسؤولة عن اختلال وضع المسلمين الاقتصادي  وإخفاق خططهم التنموية، أو أنها تستطيع برقة ساعدها أن تنهض بما عجز عنه الرجال.

ولقد أدَّى هذا التوجه الاجتماعي العام إلى ربط تعليم الفتاة بسوق العمل، وأصبح من المقبول اجتماعياً سعي الفتاة كالرجل في طلب الوظيفة، ومكابدتها في طلب الرزق، دون النظر إلى اختلاف الأدوار بين الجنسين، وعدم الاعتبار بحال المجتمعات الأخرى، وما انتهى إليه حال كثير من النساء العاملات فيها، ولا شك أن سنة الله الاجتماعية لن تتخلف عن المفرطين، فليست المحاباة من طبيعة قدر الله الذي لا يتأجَّل.