ينتظم حق المرأة العام في نظام الاقتصاد الإسلامي ضمن مجموعة من الحقوق الجزئية، التي تكون في مجموعها إطاراً متلاحماً من الحقوق المترابطة التي تعمل في مجملها على إبقاء شخصية الفتاة معتبرة الجانب، محفوظة الذات من كل ما يَشينها، أو يحطُّ من مكانة أسرتها، أو يضر بمجتمعها، ضمن ما يوصف بالحياة الطيبة، التي قال عنها المولى U : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ولقد عاشت الفتاة - والإناث عموماً- عبر تاريخ الإنسانية نوعين من الحياة، لم تخرج في أحدهما عن سلطان الرجل وإشرافه - المباشر أو غير المباشر- أحدهما: حياة صالحة كريمة في كنف قيادة رجولية مؤمنة عادلة، والأخرى: حياة بائسة ذليلة في ظل سيادة ذكورية جاهلة ظالمة، فتتمتع في الأولى بالسعادة والرخاء، وتعاني في الأخرى من البؤس والشقاء، فهي دائماً - بالطبيعة- أول المضطهدين عند غياب الإيمان والتقوى.
ومن المستبعد في مستقبل الحياة الإنسانية -وقد أشرفت البشرية على نهاية الدنيا- أن يطرأ تغيُّر جوهري على وضع النساء، بحيث يصبحن أنداداً للرجال، فضلاً عن أن يصبحن سادة الدنيا، فإذا لم يتحقق مثل هذا في السابق والحاضر فإن ذلك أبعد في المستقبل، فقد أشار الرسول r أنه في آخر الزمان يكون القيِّم على خمسين امرأة رجلاً واحداً، بمعنى أن النساء يكثرن في مقابل عدد الذكور، ومع ذلك يتبعنه ويلذن به، كما جاءت الروايات مصرِّحة بذلك، ولا يستطعن الاستقلال بأنفسهن فضلاً عن السيطرة على الحياة الإنسانية.
والمتأمل في تاريخ الإنسانية الطويل وحتى اليوم، وعبر الحضارات المختلفة المتعاقبة لا يجد هذا المعنى يتخلَّف عن أي تجمع إنساني - متطوراً كان أم مختلفاً- فمتى ما وُجدت الجاهلية: وُجد معها - بالضرورة - اضطهاد الإناث في صورة من الصور الظاهرة أو الخفية، حتى الجاهلية الفرعونية التي يحاول بعضهم عبثاً أن يستثنيها من بين الحضارات الجاهلية الظالمة لعنصر الإناث، معتمدين في ذلك على رسوم ونقوش تصور المرأة بجانب الرجل، وكأن الرموز والصور في حد ذاتها تُعطي الفراعنة براءة من دم آسية امرأة فرعون، التي دُقَّت الأوتاد في يديها ورجليها، وحجَّة على اضطهاد نساء بني إسرائيل، كما صورها القرآن الكريم، إضافة إلى عادة قذف فتاة حسناء في مياه النيل، ضمن ما يُسمى: "وفاء النيل"، زاعمين أن ذلك يمنع من نقص مياه النهر.
وأما الجاهلية العربية، فمع محاولة بعضهم تحسين صورة الفتاة فيها: فإن الإجماع قائم على غير ذلك، فهي لا تعدو أن تكون متْعة مستلذة، أو رحماً ناتقاً، أو حملاً ثقيلاً، أو ذاتاً موؤودة، وغير ذلك لا يعدو أن يكون شذوذاً لا يُلتفت إليه، وهذا السيد الخبير عمر بن الخطاب t يصف مكانة المرأة في الجاهلية، وكيف كانوا يعاملونها فيقول فيما روي عنه: "…. كنا بمكة لا يكلِّم أحدنا امرأته، إنما هي خادم البيت، فإذا كان له حاجة سَفَعَ برجليها فقضى حاجته….".
وأما جاهلية العصور الوسطى الأوروبية، التي سيطرت عليها ضلالات الكنيسة، فهي لا تعدو أن تكون امتداداً لمظالم اليونان، ونظرتهم الحقيرة إلى الأنثى؛ إذ لم تكن المرأة بعيدة عن ممارسات الظلم والاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل حتى الإذلال النفسي، حينما تحمَّل الأنثى أسباب الغواية الأولى، وبلية البشرية وضلالها، ولم ينته ظلم المرأة بعصر النهضة والتنوير؛ فإن القرن التاسع عشر الميلادي يمثل في "الثقافة الأوروبية والأمريكية إحدى الفترات التاريخية التي كانت تعاني فيها المرأة أشد حالات القهر والظلم والاضطهاد"، ولم تكن المرأة في المجتمعات الاشتراكية لتنجو من صور جديدة من الخسف والظلم على أيدي الاشتراكيين، واستغلالهم الاقتصادي.
وأما الجاهلية الحديثة فهي الأخرى لا تعدو أن تكون صورة مكررة من الجاهليات الماضية، تمارس على الفتاة صنوفاً جديدة من الاضطهاد والعسف، والاستغلال الجنسي البشع، والظلم الاجتماعي والاقتصادي، مع الإبقاء على بعض المظاهر الخادعة -التي يقتضيها العصر- من صور التكريم والإجلال في الأندية واللقاءات العامة، وإعلانات حقوق الإنسان في مجامع منظمة الأمم المتحدة، ويكفي العالم المتحضر خزياً أن يشكل النساء (70%) من فقراء العالم.
إن هذه الجاهليات المتعاقبة تتفق كلُّها على اضطهاد النساء حين تغيب عن حياة الأمم هيمنة تعاليم الوحي المبارك التي تجعل الجنة عند قدم الأم الوالدة، وتأمنها على المصحف الأم، وتوجب الاقتداء بها في السعي بين الصفا والمروة، وتسمح لها أن تطأ بقدمها ركبة أعظم الخلق، ثم لا يختار المولى U مكاناً يقبض فيه أكرم نسمة عليه أفضل من حجر فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، وأما ما يُنسب إلى السنة النبوية مما يخالف هذا التوجه، فإنه لا يعدو أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً، ويكفي المرأة كرامة أن يعلن النبي r في المسلمين محذراً ومنبهاً فيقول: "اللهم إني أحرِّج حقَّ الضعيفين: اليتيم والمرأة".
إن هذه التعاليم الربانية، والممارسات الواقعية التي ترقى بالفتاة إلى هذا المقام: لا يمكن أن تقْصُر عن حقوقها الاقتصادية، التي لا تزيد عن كونها جزءاً من حقوقها الإنسانية العامة التي حباها بها الإسلام.