5ـ دور الحدود الشرعية في ضبط السلوك الجنسي

إن من أهم واجبات النظام الاجتماعي: ضبط العلاقات الجنسية؛ لأن الغريزة بشدتها وإلحاحها تهدد في كل لحظة بانحرافها؛ لكونها تحمل في طبيعتها مبدأ زيغها وضلالها، بما تحمله من الاندفاع والعنف والقوة، والطبيعة الإنسانية في العموم تأبى في سلوكها مراتب الكمال، خاصة عند وفْرة الشباب، واكْتمال الشهوة، وضعف الوازع الديني، حتى " إن الله U ليعجب من الشاب ليست له صبوة "؛ لأنه في اندفاعه لا يكاد يُصْغي لنداء العقل الذي يلْفته عما يرغب، بل لا يستطيع فهمه؛ لأن دافع الشهوة بطبيعته لا يلتفت إلى داعي العقل، وإنما يخضع لضابط القوة والسلطة التأديبية الرادعة. ومن هنا جاء دور العقوبات الشرعية والتأديبات التعزيرية لتُعزِّز بقوتها توجه المجتمع الأخلاقي، وتُساعد الأفراد - بصورة مباشرة وغير مباشرة - على ضبط غرائزهم، وإحْكام نوازعهم، حتى يبقى نشاط الغريزة الجنسية في مساره المشروع، يُحقق الهدف من مبدأ تركيب الشهوة.

وقد عاشت الأمة الإسلامية في رحمة شريعتها دهراً من الزمن لا تعرف الفواحش الجنسية ومعاناتها الصحية إلا بالقدر الطبيعي الذي لا تنفك عنه أطهر المجتمعات الإسلامية، وذلك عندما كان أفراد المجتمع يعيشون بالفعل الآثار التربوية، والمنافع الحيوية التي تُحييها رهبة الحدود الشرعية في نفوسهم، فالإنسان "إذا نظر إلى اللذات، وإلى ما يترتب عليها من الحدود والعقوبات العاجلة والآجلة: نفر منها بطبعه لرجحان مفاسدها"، بل إن المجتمع الأوروبي رغم تحريف شريعته، وضلال منهجه: انتفع - إلى حد كبير - بتطبيق العقوبات القانونية في ضبط سلوك الأفراد وإحكام شهواتهم، وما تجرَّأ الناس عندهم على الفواحش، وانتهاك الأعراض بهذه الصورة المفزعة، والعود من جديد إلى الجريمة بعد استيفاء العقوبة إلا بعد الثورة الفرنسية حين فُرِّغ القانون من أسباب قوته، وسطوة سلطانه، وعلى ضوء هذه الآثار الإيجابية لإقامة الحدود: يُفهم قول رسول الله r (( حدٌ يُعمل به في الأرض: خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحاً)).

وقد ابتُليت الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث - منذ زمن الاستعمار - بما ابتُليت به أوروبا قبل قرنين من الخلخلة الاجتماعية والفكرية؛ حيث استُبدلت القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية في غالب الدول، وانحسر تطبيق الشريعة إلا في جوانب من أحكام الأسرة والأحوال الشخصية، فتبدَّل بالتالي كثير من الثوابت الأخلاقية، فوجد المنافقون - في هذا الوضع الاجتماعي المختل - فُرصة لنشر الفواحش في بلاد المسلمين، والولوغ في الأعراض المحرمة، تحت حماية القانون، بعيداً عن سطوة الشريعة وضوابطها، حتى إن الدعارة المنظمة كانت ولا تزال في بعض البلاد الإسلامية موضع اهتمام أجهزة الدولة وإشرافها.

وأما أحكام الحدود الشرعية، وأسلوب تطبيقها فقد فقدت هي الأخرى طبيعتها وحدود معالمها، فلم يعد الأصل في الأبضاع الحرمة ما دام التراضي بين الطرفين والعزوبة قائمين، بغض النظر عن نوع الجريمة: مثْلية كانت، أو غيريَّة، أو زنى محارم، ما دام الجميع مكلفين قانونياً، بل وحتى الاتصال الجنسي بالحيوان لا يُؤاخذ به القانون؛ إذ ليس لله تعالى أو للمجتمع حقٌّ يُلتفت إليه في هذه القوانين، إنما الحق في الادعاء أو العفو للزوجين فقط حال قيام الزوجية بينهما، حتى ولو عاين الشهود العدول الجريمة، وشهدوا بها، إلى جانب التحيُّز الواضح في القانون لصالح الزوج على زوجته، حيث حرم عليها المشرِّع القانوني الزنا مطلقاً مادامت الزوجية قائمة، في حين أباح لصالح الزوج الحرية الكاملة في مضاجعة من شاء من العاهرات مادام بعيداً عن فراش الزوجة ومسكنها، بل إن محترفة البغاء تُؤاخذ قانونياً في حين لا يؤاخذ من يفجر بها، كما أن نوع العقوبة في حال ثبوت الجريمة على طريقة القانون: انحصرت في نوعين فقط من العقوبات: السجن، أوالغرامة المالية.

إن الرضا والاطمئنان ببند واحد من بنود هذه القوانين مما يخالف إجماع الأمة: كاف لإخراج مسلمي أهل الأرض قاطبة من ملة الإسلام إلى ملل الكفر والضلال، فضلاً عن مجمل هذه التشريعات الوضعية الصارخة بمحادَّتها للنقل، ومخالفتها للعقل، وإن الناظر في الشريعة الإسلامية يجد اعتناءها بالمنهيات أكبر من اعتنائها بالمأمورات؛ فإن المشقة تسمح بترك بعض الواجبات كالقيام في الصلاة المفروضة، أو الصيام في رمضان ونحو ذلك، في حين لا تسامح الشريعة في الإقدام على المعاصي، ولا سيما الكبائر حتى للمكره، مهما عظمت عليه المشقة، كالمكره على الزنى، أو القتل، " وهذا يدل على أن المسامحة في ترك الواجب أوسع من المسامحة في فعل المحرم، وإن بلغ العذر نهايته "، والواقع من حال هذه القوانين عدم اعتنائها بما اعتنت به الشريعة الإسلامية، بل تخالفها في وجهتها مخالفة كاملة.

ومع أخذ دول العالم بما فيها غالب الدول الإسلامية بهذه القوانين، والعمل بها: فإن الواقع الأخلاقي يشهد بأنها لم تحمِ عرضاً، ولم تؤدب فاسقاً، ولم تردع مجرماً، ولم تمنع فاحشة، بل هي في شأن الزنا - بصورة خاصة - على العكس من ذلك، وكأن بقيامها على مبدأ التراضي بين الطرفين تُعلِّم الرجال، وتقول لهم: " احتالوا على رضا النساء، فإن رضين الجريمة فلا جريمة، فكأنها تعلمهم أن براعة الرجل الفاسق إنما هي في الحيلة على المرأة، وإيقاظ الفطرة في نفسها، فينصرف كل فاجر إلى إبداع هذه الأساليب التي تطلق تلك الفطرة من حيائها، وتخرجها من عفتها، تطبيقاً للقانون "، فإذا عُلم: أن الإناث - كما هو حالها في كل أجناس الحيوان - " أقلُّ جلداً، وأسهل انخداعاً، وأسرع غروراً "؛ فإن الاحتيال عليهن في مثل هذه المسائل الغرائزية أمر ممكن؛ بل هو من أيسر ما يكون على الفاسق الماكر مع المغررة الساذجة.

إن مما ينبغي أن يُعرف: أن قضية العقوبات الجنسية عند الغربيين قضية صراع نفسي بين انفلات إنسان أوروبا الحديث من جهة، وبين تعسُّف نظام الكنيسة التاريخي من جهة أخرى، فبقدر إفراط الكنيسة القديمة في التحريمات والعقوبات، كان في المقابل تفريط المشرِّع الحديث في الإباحيات والتأديبات، فهو صراع أوروبي بالدرجة الأولى، لا يعرفه المسلمون عبر تاريخهم الطويل؛ لأنهم إنما يستمدون شرعتهم من المصدر المعصوم، الذي لا يجري عليه الخطأ، فما أمرهم بشيء، أو نهاهم عنه إلا وفيه بالضرورة مصلحة عاجلة أو آجلة.

وعلى الرغم من تفريط القوانين الحديثة في الأخذ بالشريعة في غالب الدول الإسلامية فقد بقي للجانب الروحي عند المسلمين دوره في كفِّهم عن كثير من الموبقات والانحرافات الأخلاقية والسلوكية؛ ففي الوقت الذي تشير فيه التقارير العالمية إلى أفريقيا باعتبارها تحتل المرتبة الثانية في انتشار مرض الإيدز: تأتي الدول العربية في شمال أفريقيا ضمن أقل الدول انتشاراً لهذا المرض مقارنة بباقي دول أفريقيا في الجملة، وليس هذا إلا بفضل الدين الإسلامي، الذي يحرم الفواحش والانحرافات الجنسية، فلو تعاضد القانون مع هذه الوجهة الروحية الإسلامية لكان الأثر على سلوك الناس أبلغ وأفضل.

إن نظام الحدود في الشريعة الإسلامية يعتبر كل اتصال جنسي - أياً كانت صفته أو مبرراته - خارج نطاق الزواج الصحيح، أو ملك اليمين: جريمة من أعظم الجرائم، يستحق صاحبها العقوبة المقررة في حقه بغض النظر عن كونه ذكراً أو أنثى، حراً أو مملوكاً، متزوجاً أو عزباً، مسلماً أو كافراً، مادام مختاراً بالغاً عاقلاً، عالماً بالتحريم، فإذا ثبتت الجريمة لدى الحاكم المسلم بالإقرار، أو الحَبَل، أو الشهادة: حرمت الشفاعة والرأفة حينئذ، ووجب الحدُّ، ردعاً للجاني عن العود، وتطهيراً للمسلم العاصي من دنس الخطيئة، وزجراً لغيره عن مثلها.

ومع كل هذا فإن إقامة الحدود في الشريعة الإسلامية ليست هدفاً في حدِّ ذاتها، بل هي وسيلة للإصلاح  فإن حصل مراد الشارع الحكيم من الصلاح والاستقامة بالتوبة والإقلاع: وَجَبَ لمثل هذا السِّتْر والعفو؛ إذ ليس من طبع الشارع تقصُّد التشهير والإيلام والنكاية، بقدر قصده الصلاح والإصلاح، ومع هذا فإن الشريعة الإسلامية بكلياتها وجزئياتها يُكمِّل ويُعضِّد بعضها بعضاً، فلا تعمل عملها التربوي المثمر في ظل التناقض الاجتماعي، والتخُّير التطبيقي، وإنما تعمل بإيجابية كوحدة متكاملة مترابطة: تربي الناس على العقيدة والأخلاق، وتحفظهم من أسباب الفتنة والضياع، وترتفع بهم إلى مستوى كرامة الإنسان المؤمن، فمن قعدت به همَّتُهُ - بعد ذلك - عن أدنى مراتب الكمال الواجب: كان العقاب الزاجر، والتأديب الرادع - في غير شطط أو تجنٍّ - وسيلة المجتمع لإصلاح حاله، وضبط سلوكه، وإعادته مستقيماً إلى ركْب الجماعة من جديد.

إن من واجب المجتمعات الإنسانية المعاصرة أن تنظر لنفسها أمام هذه الثورة الجنسية العارمة، التي أخذت تتخطى جميع الحواجز الخلقية، وتتعدى كل القوانين الوضعية، وتتحدَّى أعنف الأمراض السرِّية: لتصل في نهاية الأمر إلى أن يكون الجنس هو الهم الأكبر المسيطر على حياة الإنسان، فيمارسه بلا ضوابط خلقية، ولا التزامات اجتماعية؛ بحيث تفقد العلاقات الجنسية جوانبها الأساسية الضرورية: النفسية، والإبداعية، والروحية، والعقلية، التي تشترك مع الأعصاب والهرمونات في العملية الجنسية، لتتحول إلى أداء بيولوجي خالص، يشبه - إلى حد كبير - سلوك الحيوان الجنسي، فينطلق إنسان العصر المسعور ليفرغ طاقته الجنسية بأي صورة من الصور، وفي أي موضع وزمان، كما يفرِّغ مثانته من البول، وهذا الوضع إيذان بالهلاك العام للأمم والمجتمعات، والدمار الشامل لمنجزات الإنسان وحضارته الحديثة.