تفتقر أسواق العمل في القطاعين الخاص والعام إلى الأيدي العاملة المدرَّبة، القادرة - بصورة جيدة- على القيام بأنواع المهام والأعمال المهنية المختلفة، والتي تلبي حاجات السوق المتنوعة من المهارات والخدمات بمختلف تصنيفاتها؛ بحيث لا يحتاج خريج التعليم العام لأكثر من أشهر معدودة لاستيعاب العمل، والانخراط الكامل فيه .
كما أن الشاب المتخرج من التعليم العام - هو الآخر- في حاجة ملحَّة إلى أن يكون مقبولاً ضمن القوى العاملة، بحيث يجد مكانه في مؤسسة من المؤسسات الحكومية أو الخاصة، وهذا لا يمكن أن يتحقق له إلا أن يكون قد تأهَّل علمياً وعملياً في التعليم العام بما يخدم سوق العمل ومتطلباته الواقعية، فالحاجة - كما هو ملاحظ - متبادلة بين سوق العمل والتعليم العام، بما يحقق تأهيل الشباب للانخراط المباشر في ميادين العمل المختلفة، والمشاركة في عجلة التنمية الشاملة في المجتمع.
وهذا الربط يمكن تحقيقه من خلال إعداد الشباب عموماً عند إتمام الخامسة عشرة للعمل والإنتاج الفعلي وليس للاستهلاك فقط، بحيث يكونون قادرين على الكسب، والقيام بأنفسهم؛ فإن متوسط سنوات التعليم الإلزامي في الدول العربية لا يتجاوز ثماني سنوات، حسب تقرير الأمم المتحدة لعام 1997م، وهذا يعني أن ابن الرابعة عشرة - تقريباً - يصبح جاهزاً لدخول سوق العمل، ثم إن بلوغ الشاب سن التكليف يُعفي الأب من النفقة عليه، ويُعطي الشاب الإذن بالانطلاق في الحياة، والضرب في الأرضما - لم يكن سفيهاً - لأن البلوغ هو سن القدرة على الكسب، كما أن الميول المهنية عند الشباب تظهر في هذه السن بوضوح . فلا يكون التعليم العام إعداداً للتعليم العالي فحسب، بل إعداداً للحياة العملية والمهنية بالدرجة الأولى؛ فإن من الأهداف العامة للتربية الحديثة : تهيئة الفرد علمياً ومهنياً ليكون قادراً على الكسب؛ لأن القدرة على الكسب من خلال الصناعات نوع من الغنى للشخص؛ ولهذا احتلت متطلبات وحاجات سوق العمل والصناعات في اليابان الحديثة المرتبة الأهم والأكبر في أهداف المنهج الدراسي في التعليم العام، وقد كان التعليم- ولا يزال- هو العنصر الأساس في نهضة غالب دول شرق آسيا . ومن هنا لابد من "إدخال تعديلات جوهرية على التعليم باتجاه جعله أكثر توافقاً مع حاجات التنمية وأسواق العمل، ويأتي في طليعة التعديلات المطلوبة : تعميم التعليم الأساسي، وإدخال العمل اليدوي فيه، وتنويع التعليم الثانوي، وإدخال التدريب المهني في جميع فروعة"، مع التوسع في إكساب الشباب مهارات وخبرات متعددة؛ فإن بعض الدراسات تشير" إلى أن الجيل الصاعد سيتعرض لتبديل وظيفته بمعدل
(4-6) مرات على امتداد حياته المهنية، ويفرض هذا التغيير المستمر في المهارات المطلوبة، وفي الوظائف المعروضة على الأجيال الصاعدة أن تتهيأ بشكل أفضل من خلال امتلاك مرونة كبيرة في اكتساب مهارات وخبرات مستجدة".
وأما التفرغ المأجور للتعليم العالي فيكون للنخبة المتميزة من الطلبة المتفوقين، حيث تتبنَّاهم الدولة لإكمال دراساتهم عبر مراحل التعليم المتقدمة، مع إعطائهم رواتب مجزية تُؤهلهم للاستقلال، ودخول الحياة الاجتماعية بكفاءة . ويُفتح التعليم بعد ذلك لغيرهم ممن دخلوا سوق العمل كأوسع ما يكون بالوسائل التعليمية المختلفة، ولاسيما التعليم عن بعد، والتعليم المسائي، ونحوها من الوسائل الحديثة جنباً إلى جنب مع العمل المهني، فيجمع الشاب الطَّموح - في الوقت نفسه - بين التعليم الذي يحقق طموحه المعرفي، والكسب الذي يُؤهله للقيام على الأسرة بصورة صحيحة؛ فإن الجمع بين الدراسة والعمل يُعتبر معلماً من معالم التعليم الحديث ولاسيما العالي منه، ففي الولايات المتحدة الأمريكية- مثلاً- يجمع غالب طلاب الثانويات بين العمل والدراسة، "وقد أظهرت عدة دراسات أن العمل مدة عشرين ساعة أسبوعياً - نصف ساعات العمل المقررة- قد يكون له تأثير إيجابي في أداء الطالب في الجامعة"، ونحو هذه الساعات من العمل لا يبعد أن يكون لها نفس التأثير الإيجابي لدى الطالب في المرحلة الثانوية أو الإعدادية، ممن يحتاجون للعمل للإنفاق على الأسرة، ولعل مما يؤكد ذلك إعجاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشاب صاحب الحرفة، وكراهيته للشاب ليست له حرفة.