تقوم الأنشطة الاقتصادية في العالم على نظم وقيم مذهبية ونظرية تنسجم مع سياسات الحكم العامة لكل دولة،بحيث يصعُب تصور صهرها في نمط عالمي واحد إلا في حال تخلِّي الأمم عن سياداتها، وخصوصياتها، وقومياتها حين تعتمد في تقدمها على غيرها؛ فإن من الصعوبة بمكان الجمع بصورة كاملة صحيحة بين الاستقلال الذاتي وبين الاعتماد على الآخرين.والأمة الإسلامية-دون سائر الأمم- لا يقبل منهجها الرباني أيَّ نوع من الشِرْكة المذهبية أو النظرية، كما أن نظم الأمم، ومنطلقاتها المذهبية والسياسية، وتصوراتهم العقدية والفكرية،ومصالحهم الاقتصادية لا تسمح لهم بصدق التعامل مع شعوب الأمة الإسلامية.ومن هنا فإن اعتماد الأمة على ذاتها في انطلاقتها التنموية خيار لا محيد عنه، ولا بديل له.
" إن الإعجاز الاقتصادي في الشريعة الإسلامية يكمن في البساطة التي تواجه بها أعلى وأعقد المشكلات الاقتصادية المحلية والدولية، وفي الإيجابية التي تُحلُّ بها هذه المشكلات، وليست ضخامة الاقتصاد أو تراكم النظريات بالمقياس الذي تُقاس به القوة الاقتصادية؛ بل بقدرة النظام الاقتصادي على حلِّ المشكلات حلاً سليماً يتمشَّى مع الفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى النهضة الحقيقية "،التي نقلت - بالفعل - الفرد المسلم في الزمن الأول من أشدِّ حالات الفقر المُدقع إلى أعلى درجات الرفاهية الاقتصادية في زمن قياسي يسير.حيث اعتمدت الأمة في كل ذلك على إمكاناتها الاقتصادية المتاحة، دون الالتفات إلى التنظيمات الجاهلية في ذلك الزمن -رغم تفوقها- إلا بالقدر الذي تسمح به العقيدة والقيم الإسلامية. فاستطاعت أن تجمع - في وقت واحد- بين أعلى درجات القوة العسكرية والتفوق العلمي
والاقتصادي، وبين الثوابت العقدية والأخلاقية،في الوقت الذي عجز فيه الأوروبيون عن اصطحاب تصوراتهم الدينية والأخلاقية في مسيرهم الحديث نحو التفوق العلمي، والنهضة الحضارية،ففي الوقت الذي تخللت فيه التعاليم الدينية كل جزئيات النهضة الإسلامية الأولى، وسيطرت على جميع كلياتها، في صور ونماذج متناغمة الخطى، مترابطة الأجزاء : سارت الحضارة الغربية في نهضتها الحديثة متنافرة مع دينها، معاندة لتوجهات كنائسها، متجاهلة تصوراتها القديمة، وتعاليمها الموروثة، التي قامت في أصلها المحرَّف مناهضة للعلم والتطور، متعارضة مع الحضارة والتقدم.
ولما كانت التنمية الاقتصادية تفتقر إلى قاعدة ثقافية يعتز بها أصحابها، وأمجاد يفتخرون بها، وتاريخ ينتمون إليه:فإن في ماضي الأمة الإسلامية من العبقرية والإبداع والتفوق في كل مناحي الحياة النظرية والتطبيقية، العلمية والعملية:ما لم يجتمع بكماله وجماله لأمة من الأمم في القديم أو الحديث. فلا يعيب المسلمين المعاصرين أن يعتمدوا على مدَّخرات تراثهم فلا يلتفتون إلى نتاج غيرهم إلا في المستحدثات التي تتمشَّى مع مبادئهم كما يفعل اليابانيون حيث
لا يأخذون عن غيرهم إلا ما يعجز عنه تراثهم القومي،أو على الأقل فليفعل المسلمون ما فعله الأوروبيون في الزمن الماضي، حين احتكُّوا بالعالم الإسلامي، وأخذوا عنه العلوم والمعارف، فأعادوا صياغتها من جديد ضمن بوتقتهم الثقافية، وصهروها مع كل العناصر الأخرى المكوِّنة لشخصيتهم الأوروبية،رغم ضعفهم- في ذلك الزمن- أمام تفوق الحضارة الإسلامية، فمن حق الأمة المسلمة أن يكون لها - كغيرها- الخيار في أن تتكيف مع العالم الحديث في قوالب من صنعها ترفع شعاراتها، وتحوي هويتها.وليس بغريب على الأمة أن تستفيد من غيرها، وأن تقتنص الحكمة كما فعلت في الزمن الأول، حين احتكَّت بمنهجها الراشد مع الحضارات الأخرى، فذوَّبت المعارف والعلوم في نسيجها الثقافي الإسلامي، دون أن يلحق هويتها تغيير أو تبديل.
ورغم أن الأمة الإسلامية لم تصل في وقت مضى إلى حالة من العجز العام كحالها اليوم؛ حتى إن الديون المتراكمة تحاصر"حوالي ستاً وثلاثين دولة من الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي التي يبلغ عددها
(45) دولة"؛فإنها - مع ذلك - لم تتوافر لها في أيِّ وقت مضى أسباب النهضة الحضارية كما توافرت لها في هذا العصر، فإنها - رغم تخلفها الحضاري - ترقد اليوم على معظم ثروات الدنيا الأولية، وتضم بين جنباتها أعظم قوة عددية متجانسة، وينتسب إليها نخبة عالمية متفوقة من أذكياء الدنيا، إلى جانب الأموال الطائلة، ومع كل ذلك تحيا عالة على المجتمع الدولي،وتعيش حالة من العجز التام عن إدارة تنميتها: فثرواتها منهوبة، وأعدادها متفرقة، وعقولها مهاجرة،وأموالها مبددة في غير طائل؛فإن الناظر في الإنفاق العسكري للدول العربية والإسلامية ليهوله حجم الأرقام الفلكية المدفوعة فيه،كما يدخله العجب والألم حين يعلم أن (35%) من الكفاءات العربية العلمية المتخصصة مهاجرة إلى دول أجنبية غير إسلامية.
إن الوحدة السياسية التي فرضها الإسلام:هي خيار الأمة الوحيد لحل كل مشكلاتها التنموية؛ فإن الأمة الإسلامية لم تكن قطُّ في وقت من الأوقات هي أحوج ما تكون للوحدة السياسية من هذا العصر؛ إذ يستحيل في ظروف الحياة السياسية المعاصرة، والتكتلات الاقتصادية الظالمة، والهيمنة الغربية المتفاقمة - ضمن مفهوم العولمة - أن تستقل دولة إسلامية باقتصادها دون سائر الدول الإسلامية الأخرى؛ بحيث تقوم أسباب تنميتها الاقتصادية على جهودها الذاتية من جهة: القوى العاملة المدرَّبة، والتقنية العلمية المتطورة، والوفرة المالية المتنامية، والموارد الطبيعية المتنوعة، والسوق الاستهلاكية الواسعة، إلى جانب امتلاكها قوة سياسية وعسكرية رادعة تحمي بها نهضتها، وتُرهب بها عدوها. إن هذا التكامل الاقتصادي والسياسي تعجز عنه كلُّ الدول الإسلامية منفردة في حين أنها بكل المعايير العقدية، والأخلاقية، والسياسية، والاقتصادية، والجغرافية: تستطيعه مجتمعة؛ فأسباب وحدتهم الدينية شاهدة، ومواردهم الطبيعية متوافرة، وقواهم البشرية متنامية، وسوقهم الاستهلاكية قائمة، وقوتهم العسكرية غالبة، مما يجعل خيار الوحدة الإسلامية بالنسبة لهم: أمراً حتمياً للنهضة الاقتصادية الجادة.
والعجيب في شأن الدول الإسلامية المعاصرة - رغم قيام كل أسباب وحدتها - أن نسبة تعاونها الاقتصادي المرصودة فيما بينها لا تكاد تتجاوز الثلاثة بالمائة،وربما الخمسة بالمائة على أقصى تقدير،رغم وفرة المواصلات، وقرب المسافات. في حين لم يعرف المسلمون اختلال الوحدة الاقتصادية بين بلدانهم، وضعف التعاون والتبادل التجاري بينهم إلا في أواخر العهد العثماني حين صدرت بعض الأحكام التي تضبط التبادل الاقتصادي: مما يدل على أن المشكلة سياسية أكثر من كونها اقتصادية.
ومن هنا لابد للدول الإسلامية والعربية أن تنطلق - بصورة جادة - نحو الوحدة الإسلامية العامة، بدءاً بالنواحي الفكرية من خلال بث مفهوم الوحدة عبر مؤسسات المجتمع المتنوعة، ولاسيما التعليمية منها، وإشاعة روح الأخوة الإسلامية، وإحياء مبدأ التضامن العربي الإسلامي، ومن ثمَّ فتح قنوات واسعة للتبادل الاقتصادي دون عوائق إدارية أو نظامية، تسمح للشركات والمؤسسات الإسلامية بالتبادل التجاري الحر فيما بينها، مع إشاعة مفهوم المواطنة الإسلامية، التي يتربى فيها المسلم على حبِّه لوطنه الإسلامي، وحرصه على نموه وتطوره، من خلال دعم منتجاته التجارية، دون غيرها من المنتجات العالمية. مع فتح مجالات التواصل الثقافي والاجتماعي بين الدول الإسلامية، ليتحقق من خلالها تكتلات سياسية إقليمية متعاونة، تكون نواة لتجمعات أكبر في سبيل الوحدة الإسلامية العامة المرتقبة.