في ظل التفوق الغربي الذي شمل العديد من مرافق الحياة الحيوية، واستطاع أن يقدم للإنسان المعاصر كثيراً من الخدمات العلمية والعملية والترفيهية، ويحقق له جملة من الآمال التي كانت في الزمن الماضي لا تعدو أن تكون أماني تجول في خواطر أصحابها، فإذا بها حقائق يستمتع بها كثير من الناس، ففي ظل هذه المتغيرات المتفوقة لا يبعد أبداً حصول شيء -كثير أو قليل- من الدهشة والانبهار، ليشمل العديد من طبقات الناس، على اختلاف توجهاتهم وحجم ثقافاتهم.
إن من الصعوبة بمكان أن يجمع طبقات من هذا الجيل المعاصر بين زمن ركبوا فيه الهودج على الإبل زمن شبابهم، وبين ركوب الكونكورد في شيخوختهم، إن هذا التغيُّر الحضاري، والنقلة السريعة التي يعانيها الجيل نفسه لا يمكن أن تمرَّ على معاصريها دون تأثير ما تخلفه عليهم، ابتداءً من الصدمة الحضارية - التي لا بد منها للجميع - ومروراً بالإعجاب والإكبار، وانتهاء بالاستسلام والانقياد.
إن من الصعوبة بمكان أن نستمتع بمنتجات الحضارة الغربية، وعطائها الكبير في ميادين الحياة دون أن يلحقنا -كثير أو قليل- من سلبياتها ورعوناتها، فإن الفصل الدقيق بين منتجات الغرب -أياً كانت- وبين فكره وسلوكه يكاد يكون أمراً مستحيلاً، ولا سيما في ظل الانفتاح الكبير الذي تشهده وسائل الاتصال الحديثة، فأمة تعيش عالة على المجتمع الدولي، تتكفَّف الأغنياء، وتخاف الأقوياء: لا يمكن لها - في ظل هذه الظروف - أن تتميز بثقافتها دون خدوش، أو أن تستقل بقرارها دون تأثير.
لقد ربط الغرب بين كثير من المحرمات في ديننا وثقافتنا، وبين كثير من إنتاجه الفكري والثقافي والحضاري، حتى أصبح القرار يُحسم على نحو: " خذه كلَّه أو دعْه كلَّه "، إما الحضارة بشوائبها - الكبيرة والصغيرة - وإما البداوة بآلامها ومعاناتها.
إن نقاط الالتقاء بين الفكر الإسلامي، وبين الفكر الغربي ليست قليلة، فإن تتبع الحكمة والتقاطها مهمة من مهمات المؤمن؛ إذ إن الأصل في كل نعمة أوجدها الله تعالى في هذا الكون أنها للمؤمنين، يستعينون بها على عبادة ربهم، وغيرهم يستمتع بها ضمن مهلة الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فإن متعة النعم تكون خالصة للمؤمنين دون غيرهم كما قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاِت مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الأعراف:32].
ومع كثرة نقاط الالتقاء بين الفكرين الإسلامي والغربي - بناء على هذا الفهم - فإن نقاط الافتراق والاختلاف والتضاد لا تكاد تُحصى في كثير من الأصول والمنطلقات، وفي حجم ضخم من الفروع والجزئيات؛ ولهذا فإن الفكر الغربي المصبوغ بالصبغة الجاهلية في منطلقاته وأهدافه لا يمكن أن يكون أنموذجاً لتفعيل الفكر العربي الإسلامي، حتى وإن كانت هناك نقاط التقاء بين الفكرين.
إن المفكر المسلم يجد في تراث الأمة الحضاري والثقافي مادة فكرية عظيمة في حاجة إلى تنقيب واستخراج ودراسة، وأعظم منها تلك المادة الشاملة لكل جوانب الفكر الإنساني التي يجدها المتأمل في الوحيين الكتاب والسنة، فالعطاء الفكري فيهما لا يمكن أن ينقطع عن الناظر المسترشد في كل عصر، فإذا كان المسلم يجد في نتاج فكر بشري ما يثيره ويأسره، فماذا تراه يجد من الإثارة والأسر والنور في رسالة تكلم بها الله تعالى، وفي هدي تكلم به أكمل وأنضج شخص عرفه التاريخ الإنساني ؟