ولئن كانت العلاقة في غاية القوة بين اللغة من جهة والناحية الفطرية والعقلية من جهة أخرى: فإن عمق هذه العلاقة يصل منتهاه حين تكون العلاقة بين اللغة والهوية؛ حين تكون اللغة مسؤولة عن نقل الثقافة بكل أبعادها ومحتوياتها، ومكلَّفة بربط الأمة فيما بينها، وصهر أفرادها ضمن بوتقة جماعية واحدة، حينما تكون اللغة عنوان الأمة في تقدمها وتراجعها، في قوتها وضعفها، بحيث يشير زوال اللغة، واندثارها إلى زوال الأمة واضمحلالها؛ ولهذا كان الصراع – ولايزال – بين الأمم لا يقف عند حدِّ المجالدة العسكرية أو المنافسة الاقتصادية، وإنما يمتد ليشمل الجوانب المعنوية بكل أبعادها، ولاسيما الأبعاد المتعلقة بتاريخ الأمة وثقافتها وحضارتها التي تمثلها وتحملها اللغة، ولهذا لاقت اللغة العربية من هجمات أعدائها وتخاذل كثير من أبنائها ما لو لاقته لغة أخرى لضاعت واندثرت منذ زمن بعيد.
ومن هنا كان حرص الدول شديداً على لغاتها القومية، والتدريس بها في جميع المراحل التعليمية، ولجميع العلوم والمواد الدراسية، فقد استقر عند الجميع أن اللغة الأجنبية لا يمكن أن تأتي مفرغة من ثقافة وحضارة وتاريخ أهلها، ففرض لغة أجنبية هو في الحقيقة فرض ثقافة أجنبية سواء بسواء، ومن هنا ظهرت خطورة اللغة الأجنبية – أيَّاً كانت– حين تفرض على المسلمين بصورة عامة، وعلى العرب بصورة خاصة؛ فلئن جاز لأيَّة لغة أن تنقرض من الوجود الحضاري، فإن هذا لا يجوز بحال على اللغة العربية، التي تحمل الحجة الربانية، واستُودعت الرسالة الخاتمة، فاندثارها،أو ضعفها إنما هو اندثار أو ضعف في تمام إبلاغ حجة الله تعالى، وهذا لا يصح في حق اللغة العربية، المحفوظة بحفظ الكتاب، الباقي– بأمر الله تعالى– إلى آخر الدهر.
ومع كل ما تقدم في هذه الدراسة من التوجه السلبي نحو اللغات الأجنبية: فإنه لابد وأن يبقى للضرورة العصرية حكمها بناء على القاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات"، والقاعدة أيضاً: "إذا ضاق الأمر اتَّسع"، والقاعدة : "الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة"، فالضرورة معتبرة في الشريعة الإسلامية إذا وُجدت حقيقتها, فالأمة العربية الإسلامية المعاصرة في مسيرها نحو النهضة في حاجة ملحَّة إلى العلوم التقنية والمعارف الطبيعية، التي تتوافر عادة بغير لغتها، فتحتاج – وربما قد تضطر– إلى اللغة الأجنبية لتحصيل هذه العلوم والمعارف، والاستفادة منها في مسيرها نحو النهضة العلمية الشاملة، فلا بأس حينئذٍ من أن تنبري فئة من أبناء المسلمين لتعلم لغة أجنبية حية، باعتبارها ضرورة دينية وعصرية لاسيما للمثقفين، يخدمون من خلالها مجموع الأمة في نقل العلوم التقنية والطبيعية ونحوها، على أن يكون ذلك مع بداية المرحلة الثانوية، حين تكون مراحل بناء اللغة العربية قد اكتملت عندهم، واكتسابها في أطواره النهائية، على أن لا يكون شأن تعليم اللغة الأجنبية عاماً في جميع أبناء الأمة، بحيث تُفرض على جميع المتعلمين، فهذا تجاوز لحدِّ الضرورة إلى المحظور الذي يعرِّض ثقافة الأمة وهويتها إلى الخطر، فالقواعد الفقهية المُبيحة للمحظور حال الضرورة أو الحاجة ليست مرسلة على إطلاقها، وإنما هي محكومة بقدر ما تدعو إليه الضرورة أو الحاجة، فهذه القواعد مقيدة بقواعد أخرى مثل: "الضرورات تقدر بقدرها"، "ما جاز لعذر بطل بزواله"، "إذا اتسع الأمر ضاق"، فلابد من تقييد هذه الوجهة نحو اللغة الأجنبية بقيد الضرورة أو الحاجة، فلا تتعداها إلى الإفراط في الأخذ بالرخصة؛ فإنه من الصعوبة بمكان استنباط ما يجيز في الشريعة فرض تعلم اللغة الأجنبية على جميع أفراد الأمة – ذكوراً وإناثاً– في حين يمكن حشد الشواهد الشرعية والتاريخية والتطبيقية التي تجيز تعلمها للحاجة بصورة فردية، ومن المعلوم لدى كثير من العلماء أن تعلم اللغات الأجنبية لغير حاجة من الأمور المكروهة شرعاً، بل إن بعض العلماء كره الحديث باللغة الأجنبية لمن يحسن العربية، فكيف – والحالة هذه– تفرض لغة أجنبية على عموم الأمة، فيلزم بها الصغير والكبير، والذكر والأنثى؟ فلابد من "توظيف هذه اللغة الأجنبية بما يناسب حاجة المجتمع والأفراد، وإعطاء الحجم المناسب لها بوصفها لغة أجنبية، لا يحق لها أن تُقصي العربية عن مواقعها، ولا أن تجوز عليها في ألسنة أهلها أو مجتمعهم".
إن الأمة المهتدية لا تبدل نمط ثقافة أهلها، وأساليب تفكيرهم ليتأقلم مع لغة الثقافة الدخيلة المحتاجة إليها، بل تسعى لترويضها وإخضاعها لأنماط ثقافتها ومناهج تفكيرها، وهذا لا يتم إلا من خلال المشاريع الجادة للترجمة والتعريب، أخذاً بتوصيات المؤتمرات والندوات الكثيرة، التي نصَّت على ضرورة نقل العلوم والمعارف الطبيعية والتطبيقية المتنوعة إلى اللغة العربية، بدلاً من تقديمها للطلاب بلغاتها الأصلية؛ فإن هذه العلوم في مبدأ أصلها الفطري محايدة، لا علاقة لها بلغة أهلها وثقافتهم، فلا ضير على هذه العلوم حين تنقل إلى العربية، فإن قدرة العربية، ومجاراتها للعلوم الحديثة، والتعبير عنها بأدق الفروق اللغوية بين المعاني: أمرٌ شهد به القريب والبعيد، وأما في حق الطالب، فلا ضير عليه هو أيضاً حين يتعلم هذه العلوم بلغته الأصلية؛ فقد أثبت جمع من الدراسات الميدانية أنه لا توجد "علاقة بين تفوق الطالب في اللغة الإنجليزية وتحصيله في العلوم الطبيعية الأساسية والتطبيقية"، فليست اللغة الأجنبية شرطاً ضرورياً للتفوق في العلوم والمعارف الحديثة، بل إن الثابت – كما تقدم– أن تعلم الطالب للعلوم الحديثة بلغته الأصلية أقرب وأفضل لفهمه واستيعابه من تعلمه هذه العلوم بلغة أجنبية.
ولا يفهم مما تقدم جواز تعليم اللغة الأجنبية للتلاميذ في صورتها التي جاءت عليها من بيئتها الأصلية؛ إذ لابد من الحيطة في التعامل معها، والحذر مما قد تحمله في طياتها من ظلال فلسفية ضالة، أو قيم أخلاقية هابطة، أو أنماط سلوكية قبيحة تروج لها، فقد وردت اللغات الأجنبية على مؤسسات الأمة الإسلامية التعليمية، عبر المناهج اللغوية المستوردة محملة بثقافة بيئاتها المنحرفة، تبث سمومها الفكرية، والأخلاقية عبر مصطلحاتها الخاصة، ومعاني كلماتها، وأساليب استخداماتها، فالواجب مراجعتها من جديد في ضوء المفاهيم الإسلامية، فتُفرَّغ من محتواها الثقافي الأممي، وتُعاد صياغتها في صورتها الرمزية، ثم تصبُّ من جديد في قوالب ثقافية تناسب طبيعة ونشأة التلاميذ في المنطقة الإسلامية، حيث يجد مؤلفو المناهج في التراث الإسلامي – القديم والحديث– نصوصاً كثيرة، يمكن أن تشكِّل مادة علمية صالحة للترجمة والتدريس باللغة الأجنبية، إلا أنه – مع ذلك – لن تكفي مثل هذه الجهود الحذِرة في تمكين المتعلمين من استيعاب اللغة الجديدة استيعاباً يمكِّنهم من بلوغ أغوارها، والوصول إلى أعماقها، كما لا يمكن لمقرر أو مقرَّرين أن يفي للمتعلمين بكامل حاجاتهم من مهارات اللغة الجديدة؛ لأن استيعاب لغة ما – بصورة ناجحة وكافية– لا يمكن أن ينفك عن استيعاب بيئتها الأصلية التي نشأت فيها، لأن " اللغة لا تعلم إلا من خلال الثقافة والحضارة التي أوجدتها، فاللغة بمعناها الأوسع ما هي إلا تعبير عن مدنية، ووعاء لتراث حضاري، ولقد أكدت الدراسات الميدانية أن الدارس الذي لا يحترم حضارة اللغة التي يتعلمها لن يستطيع أن يتقدم في تعلم هذه اللغة مهما بذل من جهود", وهذا النوع من الاستيعاب، الذي قد يصل بالمتعلم إلى حدِّ الامتزاج الاجتماعي، والتشرب الثقافي: مرفوض شرعاً – كما تقدم – لما فيه من خطر على الهوية الإسلامية , إلا أن منهجاً مقترحاً كهذا، بُني بطريقة حذِرة، قد فُرِّغ من محتواه الثقافي الأصلي: يمكن أن يقدم لطالب المرحلة الثانوية فكرة موجزة عن اللغة الجديدة، ومبادئ عامة عن مهاراتها، وقواعدها اللغوية، ومجموعة من أساليب استخداماتها وطرق فهمها، تؤهله – في مجموعها– للتمكُّن من استيعابها بصورة أفضل في المرحلة الجامعية، حين يتخصص فيها لخدمة نقل وتعريب العلوم الحديثة، أو لتدريسها، أو لاستيعاب العلوم والمعارف الحديثة المكتوبة بغير العربية، أو لغير ذلك من المصالح الحيوية للأمة، حين ينفتح الطالب المتخصص في هذه المرحلة على اللغة الأجنبية بصورة أوسع وأرحب، بعد أن يكون قد اكتمل بناؤه الثقافي، وانتهت مراحل اكتسابه للغته العربية، فلا يضره حينئذٍ اطلاعه على ثقافة الآخرين، المحملة في لغاتهم الأجنبية، فقد اكتسب من الحصانة الثقافية ما يحميه من التأثيرات السلبية للثقافة الأجنبية الدخيلة.
إن الأمة المسلمة في حاجة ملحَّة إلى إسهامة ذات صبغة عربية إسلامية متميزة، تراعي البعدين العربي والإسلامي، فتنطلق في رحاب الحياة نحو التقدم والازدهار، حاملة تراثها وتاريخها ولغتها، في كل خطوة من خطوات مسيرها الحضاري، مهتدية – في كل ذلك– بوحي ربها المنزل، ومقتدية بباني أفضل وأكمل حضارة إنسانية عمرت الحياة وهو النبي محمد r، وما لم تتبن الأمة هذه الخطوة الجادة : فإن هويتها في خطر، بل إن كيانها بأكمله سوف يكون مهدداً بالذوبان والغياب بالكلية، ولاسيما في ظل خطر العولمة، بظلالها القاتمة، التي تنذر بشر مستطير، يطال الأمة في ذاتها، وشخصيتها، وأخص خصوصياتها، بحيث لا يُترك لها، ولا لأفرادها ملاذاً في الحياة العامة أو الخاصة يحتمون به من الاصطلاء بنارها المحرقة.