يتركز الحديث هنا للكشف عن علاقة اللغة بالناحية العقلية عند الإنسان، من جهة كونها أداة العقل للتفكير والفهم والاستنباط والنظر، ونحوها من العمليات العقلية المتعلقة باستيعاب العلوم والمعارف، وتطويرها نحو الأفضل، وتطويعها لخدمة الإنسان في مسيره نحو التفوق والازدهار.
والباحثون في حديثهم عن علاقة اللغة بالإنسان يجمعون على أن هناك علاقة وثيقة كأقوى ما يكون بين اللغة التي يتكلم بها الإنسان وبين مدركاته العقلية، وذكائه، وأنماط تفكيره؛ بحيث تدخل اللغة في أصل بناء الفكرة في ذهن الإنسان دخولاً عضوياً رئيساً، فاللغة سواء كانت منطوقة يتكلم بها الإنسان، أو كانت مسطورة في ألواح يقرؤها: تتعلق بتفكير الإنسان تعلُّقاً وثيقاً، إلى أبعد حدٍ يمكن تصوره، فاللغة والتفكير– كما صورها بعضهم– شيئان مترادفان، يصعب الفصل بينهما في العمليات العقلية، بل ذهب بعضهم إلى أنهما عملية واحدة، فالقراءة الصامتة، والكلام الخفي يصاحبهما في العادة قدر معين من السلوك اللفظي اللُّغوي، المتمثل في تحريك الشفة واللسان، فالإنسان حينما يفكر هو في الحقيقة يتكلم، ولكن بدون صوت، فالفكر هو الكلام الذي لم يظهر كصوت؛ ولهذا لا يمكن للإنسان أن يحلم في منامه بلغة لا يتكلم بها، مما يدل على أن اللغة تبلغ من عقل الإنسان وكيانه الفكري مبلغاً عظيماً, والعرب تقول في الأمثال : " المرء بأصْغَريْه" يعني قلبه ولسانه.
يقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنمـا .:. جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا
ولئن كان هذا التوجه المفرط في الترادف بين اللغة والتفكير إلى درجة الخلط بينهما: يحمل قدراً كبيراً من الحق، فإنه مع ذلك يحمل قدراً من المبالغة، ولعل مما يخفف من الاندفاع المفرط تجاه هذا الرأي: كون التفكير– في بعض الأحيان– يُصيبه الاضطراب والخلل، ومع ذلك قد تبقى اللغة سليمة، والعكس أيضاً صحيح، إلا أنه مع كل هذا فإن أقل ما يقال في علاقة اللغة بالتفكير عند الإنسان أنها أداة التفكير عنده؛ فإن "أنماط التفكير السائدة التي يكتسبها أفراد مجتمع من المجتمعات ترتبط ارتباطاً كبيراً باللغة التي يتكلمونها، فلا يمكن أن توجد أفكار دون كلمات؛ أي دون لغة ورموز لغوية، بل إن نوع هذه الأفكار، وطريقة التعبير عنها ترتبط أيضاً باللغة التي يتكلمها الأفراد"، فاللغة – بهذا الفهم– "هي منهج الإنسان في التفكير، وفي الوصول إلى العمليات العقلية والمدركات الكلية… فاللغة إذاً تجربة عقلية شعورية، يتم التعبير عنها من خلال تجربة لفظية مناسبة"؛ إذ الألفاظ هي صور المعاني، والقوالب التي تُصبُّ فيها من خلال التراكيب المترابطة بين الألفاظ، بعد أن تكون قد استقرت في ذهن الإنسان المعاني المفردة إزاء الألفاظ الدالة عليها، مما يُؤدي بالتالي" إلى مسلمات تنزل منزلة القيم التي تضفي على الدلالات حجية يتعاطاها أبناء اللغة فيما بينهم"، فتجمع اللغة– بهذا المفهوم– بين وظيفتي التفكير والبيان، بل إنها تذهب في عمق الإنسان إلى ما هو أبعد من هذا حين تدخل في عمليتي التذكر والتخيل، فليس" هناك تذكر بحت بدون تمثلات أو لغة أو رموز، وليس هناك تخيل بدون لغة". ولقد أكد البحث الحديث، في السنوات الأخيرة: أن العلاقة في غاية القوة بين النمو المعرفي والنمو اللُّغوي عند الإنسان، يؤثر كل منهما في الآخر، ويسيران سوياً في نموهما متناسقين ومتشابكين.
ولقد أكَّد علم النفس عمق هذه الرابطة بين اللغة وعمليات التفكير عند الإنسان، حتى أصبح موضوع اللغة والفكر موضع اهتمام كثير من الباحثين النفسيين، معتبرين أن الألفاظ في اللغة: "رموز تعبر عن معان ومفاهيم، محملة بشحنات نفسية وانفعالية"، مما يؤكد بوضوح ارتكاز وتجذُّر القضية اللغوية في عمق الكيان الإنساني، تتفاعل مع الشخصية بكل أبعادها، وتؤثر فيها كأبلغ ما يكون، ولاسيما اللغة الرمزية التي تحمل المفاهيم الأدبية والفنية، والتي تهدف إلى توجيه السلوك الإنساني والتأثير فيه، خلافاً للغة العلوم والتقنية، باعتبارها لغة إشارات، "ليس لها قيمة ذاتية؛ لأنها تستمد قيمتها مما تشير إليه، بينما الرمز يدل على قيمة خاصة، وعلى دلالة إنسانية وشعورية".
ولعل من أبلغ ما يدل على مدى تأثير اللغة في عقل الإنسان، وشدة ارتباطها به: كون اللغة أداة النضج العقلي، وأبرز أماراته الدالة عليه؛ ولهذا يُلحظ دخول الإناث عالم التكليف الشرعي– في الغالب – قبل دخول الذكور ممن هم في نفس السن، وما ذلك إلا بسبب استيعابهن الأكبر والأسرع للغة، مما يكون سبباً رئيساً في نضجهن العقلي قبل غالب الذكور، وبالتالي دخولهن سن التكليف قبلهم، ومن المعلوم شرعاً أن التكليف في نظام الإسلام مرتبط بالعقل، وفهم الخطاب الشرعي، وهذا لا يتأتَّى إلا بدرجة كافية من التمكن اللُّغوي، الذي يُؤهل صاحبه لتحمل المسؤولية.
ولما كان هذا شأن اللغة مع عمليات الإنسان العقلية، حين تدخل بتأثيرها النافذ في عمق بنائه الفكري، وصلب نشاطه الذهني: برزت قضية تعلم اللغة الثانية، باعتبارها عملية مركبة معقدة، يتداخل فيها عدد لا حصر له من المتغيرات الكثيرة، التي تبدأ بتجربة الصدمة الثقافية، التي يعانيها– بصورة عامة – كل من يُقْبل على تعلُّم لغة ثانية، ولاسيما إذا كان ذلك في بيئتها الثقافية، مما قد يفضي بالمتعلم إلى شعور بالضيق، وربما إلى أزمة نفسية عميقة؛ وذلك يرجع إلى "أن اللغة أهم مظاهر التعبير عن الثقافة، ومن ثم فإن اضطراباً ما يمكن أن يصيب نظرة المرء إلى العالم وإلى نفسه، وطريقة تفكيره ومشاعره، حين ينتقل من ثقافة إلى أخرى"، فلن تفوت المتعلم لِلُّغة الثانية تجربة الصدمة الثقافية، باعتبارها خبرة أوَّلية لابد منها، ومع ذلك تبقى هذه التجربة– على ما فيها من مشقة– محدودة بزمن التجربة الأولى، وسرعان ما يتجاوزها المتعلم الجاد، خاصة من قد ترسخت ثقافته الأصلية في عمق شخصيته، ويحمل في ذاته قدراً كافياً من الاعتزاز بها، إلا أن المشقة الكبرى، التي –عادة– ما يطول أمدها، ولا تكاد تنفك عن تجربة المتعلم: تكمن في قدرته على إتقان مهارات اللغة الجديدة، والوصول في زمن قصير من عمره إلى امتلاك زمامها: قراءة، وكتابة، ومخاطبة، والتصرف في أساليب استخداماتها كأحد أبنائها، بحيث يستطيع أن يصل إلى المعلومة العلمية المدوَّنة باللغة الجديدة، ويفهمها تماماً كما يفهمها أصحاب تلك اللغة، فلا فرق عنده في الفهم والاستيعاب للمعلومات العلمية أن يسمعها أو يقرأها بلغة أهلها، أو أن يسمعها أو يقرأها بلغته الأصلية، وحينئذٍ يكون قد وصل إلى المنتهى في تعلمه لِلُّغة الجديدة.
وهذا النوع من الإتقان للغة الجديدة هو الشرط الأساس لضمان تحييد أثرها السلبي في فهم المتعلم، وسلامة نقله للعلوم والمعارف، وبه يتحقق الهدف المنشود من وراء تعلم اللغة الأجنبية. إلا أن الحقيقة الواقعية، والتجارب الإنسانية تدل على أن هذه الدرجة من الإتقان للغة الجديدة تكاد تكون أمراً مستحيلاً، ولاسيما عند المتعلم البالغ، الذي قد ترسخت عنده مراحل بناء لغته الأصلية، فهو لا يستطيع أن ينفك عن التأثير السلبي للغته الأصلية على اكتساب اللغة الجديدة، في استخلاص المعاني، وتمييز الأفكار، مما قد يشوه تفكيره، ويُكسبه نظاماً جديداً للتصور والفهم، فجهوده المبذولة – مهما كانت متفوقة – لا يمكن أن تبلغ منتهاها في تعلم اللغة الجديدة، فغالباً ما يصل المتعلم إلى مرحلة من التحجُّر في أشكال من الأخطاء، وأنماط من العثرات الدائمة، التي لا يكاد ينفع معها تدريب ولا تعليم، ولاسيما إذا لم يكن بين اللغتين الأصلية والجديدة أوجه للتشابه، تساعد المتعلم على تجاوز بعض صعوبات التعلم كالاختلاف في الأصوات مثلاً، فقد يوجد صوت معين في اللغة الجديدة ولا يوجد في اللغة الأصلية فتزداد الصعوبة على المتعلم؛ وقد أشارت بعض الدراسات: "إلى أن تعلم اللغة الأجنبية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى الاختلاف أو التشابه بين هذه اللغة الأجنبية واللغة الأولى للمتعلم ؛ حيث أجمعت أبحاث اللغويات التطبيقية المعاصرة على أنه كلما زادت أوجه التشابه في القواعد النحوية والمورفولوجية (الصرفية) والأسلوبية بين اللغة الأم للمتعلم واللغة الأجنبية المراد تعلمها: زادت معها طردياً فرصة التعلم الإيجابي، وأضحى المتعلم مهيأ بشكل أفضل لاكتساب المهارات اللغوية الجديدة"، وهذه الميزة المساعدة على التعلُّم، المتعلقة بأوجه التشابه بين اللغة الأصلية واللغة الجديدة يفتقدها المتعلم العربي للغات المتفرعة عن الأصل الجيرماني، الذي يعود أساساً إلى اللغات الهندوأوروبية، وبصورة خاصة اللغة الإنجليزية التي أصبحت موضع اهتمام غالب العرب، والتي تختلف في طبيعتها عن اللغة العربية السامية الأصل اختلافاً بيِّناً، إضافة إلى التباعد الجغرافي بين بيئتي اللغتين، حيث تحول بينهما مسافات جغرافية شاسعة، فالتباعد بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية حقيقة قائمة من الجهة التاريخية لكل منهما، ومن الجهة الجغرافية البيئية، إضافة إلى صعوبات الكتابة بين اللغتين، مما يجعل في تعلمها مشقة لا تنفك عنها خبرة المتعلم العربي لها مهما كان متفوقاً، فلا يصل في تعلمها إلى المنتهى المنشود، للفهم الكامل الناضج، والاستيعاب الشامل، حتى وإن عاش بيئتها الثقافية بعد سن البلوغ، وقد ترسخت أطوار بناء لغته الأصلية؛ ولهذا فإنه من الأولى– والحالة هذه في تعلم اللغات الأجنبية– أن مقرراً دراسياً– مهما كان متفوقاً ومتقناً– لا يكفي لتعلم اللغة الثانية والنجاح فيها، ومن المعلوم أن مجرد الطلاقة في اكتساب اللغة الثانية، لا يمكن أن تتحقق في قاعات الفصول الدراسية وحدها، ولعل مما يدلُّ على صحة ذلك ما يُلحظ من تعاطي كثير من الطلاب للغش في اختبارات اللغة الإنجليزية بصورة خاصة, أكثر بكثير من غيرها من المواد، وما ذلك إلا للصعوبة التي يواجهونها في اكتسابها واستيعابها، وكثيراً ما تقف عائقاً في طريق بعض الطلاب، وسبباً لإخفاقهم في إتمام دراستهم الجامعية.
ومن هنا فإن تعلم اللغة الأجنبية – بكل هذه المعوقات– لن يكون كافياً لاستيعاب العلوم والمعارف، وتأسيس درجة كافية من الاستقلال العلمي للأمة العربية والإسلامية، بل إن الثابت علمياً أن تعلم العلوم المختلفة بلغة المتعلم الأصلية أفضل وأحسن له من تعلمها بلغاتها الأجنبية؛ إذ تتحيَّد التأثيرات السلبية للغة الأجنبية على فهمه واستيعابه للمعلومات، فيتوجه بكامل جهده الذهني نحو فهم المضمون العلمي، دون الحاجة لاستهلاك جزء من طاقته الذهنية في فهم القوالب اللغوية الأجنبية التي تحمل هذا المضمون العلمي، وقد أكدت العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية، وكذلك ما أجراه المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي عام 1966م، والمؤتمر العالمي لاتحاد الجامعات العربية عام 1973م، "كل ذلك يؤكد أن الفكر الأصيل لا يمكن أن يظهر أو ينشأ في الأمة إلا إذا كان أبناؤها يتعلمون ويكتبون ويؤلفون بلغتها"، والمتعلم الذي يسعى لأخذ العلم بغير لغته، وبغير خطِّه يكون بينه وبين ذلك العلم حجب وصعوبات.
ومن المفارقات العجيبة أن هناك علاقة قوية في غاية الوضوح بين كثرة اللغات في بلد ما وبين تخلف ذلك البلد وتأخره، تقابلها علاقة قوية أخرى بين التجانس اللُّغوي في بلد ما وبين تقدم وازدهار ذلك البلد؛ فهذه الهند وأندونيسيا والفلبين، التي يقل فيها دخل الفرد إلى أقل من حد الكفاف، يتحدث أهل هذه الدول (1668) لغة تقريباً، في حين يتحدث الأوروبيون جميعاً والأمريكيون واليابانيون (36) لغة فقط، وهذه القارة الإفريقية، أكثر قارات العالم تخلفاً حضارياً، وفقراً وعوزاً: يتحدث أهلها (1300) لغة تقريباً، ومن العجيب أن بعض دولها يتحدث أهلها اللغة الإنجليزية أو الفرنسية بطلاقة، باعتبارها لغة رسمية للبلاد، ومع هذا لم تجن تلك الدول إلا مزيداً من التخلف والتأخر الحضاري، ومن المعلوم أن أمة تتبنى لغة أجنبية في جميع مرافق ومجالات حياتها إنما تمارس هلاكها واضمحلالها، وتسعى بنفسها نحو الانتحار الحضاري، وهذه التجربة العربية التي مضى عليها ثمانون عاماً في تدريس العلوم باللغات الأجنبية رجاء امتلاك العلوم والتقنية، وتوطينها في البلاد: لم يُكتب لها النجاح، ومازالت الأمة في تخلفها الحضاري لم تحقق أهدافها، ففي الوقت الذي لم تحسم فيه قضية التدريس باللغة العربية في التعليم العالي في البلاد العربية: فإن " الغالبية العظمى من الشعوب والأمم في أوروبا تدرس بلغاتها القومية، وكذلك هو الحال في اليابان والاتحاد السوفيتي السابق وغيرهما من الدول الأخرى، دون أن يكون لذلك أثر في انعزالها الثقافي عن العالم"، ولعل واقع اليابان خير شاهد على هذا، حين اعتمدت بصورة كبيرة على لغتها القومية في نقل وتعليم العلوم، فليس بغريب عندهم أن يُوجد العالم الكبير الذي لا يعرف اللغة الإنجليزية على الإطلاق، ومن المعلوم أن التجانس اللُّغوي بين شعب من الشعوب يُعد واحداً من أسرار النهضة والتقدم الحضاري؛ ولهذا تسعى دول الغرب المتحدثة بالإنجليزية إلى محاولة تقريب عادات النطق بين فئات شعوبها المتعددة، وتخليص لغتهم من الأصوات ذات الطابع المحلي الضيق، بهدف تكوين لغة قومية مشتركة، تصلح للتفاهم العام بين أبناء اللغة الواحدة، وقد كان للبريطانيين دور كبير في هذا المسعى للتجانس اللُّغوي، الذي حقق للمتحدثين بالإنجليزية قاعدة لغوية مشتركة، ساعدتهم على نشر لغتهم، والتوسع فيها، مقابل التباين اللُّغوي المفرط لدى كثير من الدول المتخلفة حضارياً، الذي يُعدُّ واحداً من أسرار تخلفها العلمي، وتأخرها الحضاري.
ومن هنا فإن الأمة المهتدية لا تبدل نمط ثقافة شعبها، وأسلوب تفكيره ليتأقلم مع لغة الثقافة الدخيلة المحتاجة إليها، وإنما تسعى لترويضها، وإخضاعها لأنماط ثقافتها، ومناهج تفكيرها؛ فإن هذه العلوم في مبدأ أصلها الفطري محايدة، لا علاقة لها بلغة أهلها وثقافتهم، فقد ثبت عن طريق جمع من الدراسات الميدانية أنه لا توجد " علاقة بين تفوق الطالب في اللغة الإنجليزية وتحصيله في العلوم الطبيعية الأساسية والتطبيقية"؛ ولهذا لما تشوقت الأمة المسلمة– في زمن عافيتها– إلى علوم غيرها، المكتوبة بلغات أجنبية: نقلتها إلى لغتها العربية، وجرَّدتها من اللسان الأعجمي, فازدهرت بها، وراجت بالحرف والصوت والمعنى العربي، في الوقت الذي أهملت فيه تلك العلوم بلغاتها الأصلية، حتى أضحت العلوم في ذلك الوقت بلغة العرب، فكانت العربية بعد ذلك أداة الحضارة الإسلامية، فهي: لغة العلم، والتمدن، والتأليف في جميع العلوم المتاحة في ذلك العصر، وأصبحت بحق لغة ناقلة للعلوم كما اعترف بذلك بعض الغربيين، فكل العلوم ولاسيما الكونية منها – على اختلاف أنواعها– كُتبت باللغة العربية ومصطلحاتها، مما اضطر كثيراً من غير المسلمين إلى تعلم اللغة العربية لمواكبة العلم , والتقدم الحضاري, ففرض المسلمون – بناء على ذلك – لغتهم على العلوم حين كانت الأمة المسلمة متفوقة في مجالات الحياة المختلفة، ومن المعلوم أنه كلما " كانت الدولة ذات قوة ومكانة من النواحي المالية والعسكرية وغيرها أضحى لها مجال واسع لكي تفرض لغتها على العالم".
وقد تميزت اللغة العربية على سائر اللغات الأخرى باكتمال حروفها، وتمام ألفاظها، وكثرة مفرداتها بلا نقص ولا زيادة ولا خلط، مع مطابقة كاملة بين الصوت المسموع والصورة المقروءة، مما مكَّنها من نقل ووصف الأشياء، والتعبير عنها بصورة متقنة دقيقة، لا تكاد توجد بكمالها في اللغات الأخرى، وقد أثبتت دراسة ميدانية يابانية أن أكثر اللغات العالمية وضوحاً صوتياً في استخدامات الحاسب الآلي هي اللغة العربية، وصدق المولى عز وجل إذ يقول عن كتابه المُنزَّل بالعربية: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103]، يقول الإمام القرطبي في تفسيره: "أي أفصح ما يكون من العربية"، حتى إن الشخص العربي العادي يستطيع أن يقرأ القرآن الكريم المنزل بالعربية قبل أربعة عشر قرناً، ويفهم كثيراً من معانيه، في حين لا يستطيع الإنجليزي في هذا العصر أن يقرأ ما كتبه شكسبير باللغة الإنجليزية في القرن السابع عشر الميلادي. ولئن كانت الاتجاهات اللغوية الحديثة تحترم جميع اللغات باعتبارها قادرة على استيعاب العلوم والمعارف المختلفة، فإن احترام اللغة العربية التي كان لها إنجاب فكري وحضاري وعلمي سابق أولى بالاحترام والتقدير والاعتراف.