المقصود بفطرة الإنسان: الطبيعة التي جُبل عليها، بصورة عامة متواترة في جميع أفراد الجنس البشري، فقد صرحَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى العام في حديثه عن الإسلام، وكونه فطرة قد فُطر عليها جميع الناس، حيث يقول: "ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه…"، وقد فسَّر جمع من العلماء الفطرة بأنها الإسلام. فكما أن الإسلام فطرة فُطر عليها بنو آدم، فكذلك اللغة هي الأخرى قد فُطر عليها الناس، وأصبحت بالجبلَّة جزءاً أصيلاً من طبيعتهم الإنسانية، فهي ظاهرة إنسانية اجتماعية من الدرجة الأولى، مرتبطة بالإنسان بصورة دائمة، فلا تعرف البشرية – عبر أحقاب الزمان الماضية – مجتمعاً إنسانياً بغير لغة يتفاهم بها أفراده، ويتواصلون عن طريقها، فهي إنسانية النزعة، تُوجد – بالضرورة– حيث يُوجد المجتمع الإنساني، وعليها يقوم التاريخ، فإن "التاريخ لا يكون إلا في عالم، فإنه حيث تُوجد اللغة يوجد التاريخ"، فليس بعيداً عن الصواب أن تُوصف اللغة بأنها غريزة في سلوك الإنسان – تماماً– كما أن النسج عند العناكب غريزة في سلوكها.
هذا الارتباط الفطري الوثيق بين اللغة والإنسان يؤكِّد تفرَّد الإنسان بالخاصية اللغوية التي تُميِّزه – بصورة جذرية– عن سائر عالم الحيوان، حيث أجمع" العلماء– والرأي هنا قاطع– على أن اللغة كوسيلة للاتصال تقوم على المفاهيم والرموز والعرف: لا وجود لها إطلاقاً في مملكة الحيوان، ولن يأتي اليوم الذي يتم فيه اكتشاف مثل هذه اللغة في مملكة الحيوان"؛ لأن "اللغة الإنسانية تختلف اختلافاً حاسماً عن وسائل الاتصال الحيوانية"، وبالرغم من المحاولات الكثيرة التي أجريت على القردة لإكسابهم شيئاً من لغة الإنسان فقد باءت بالإخفاق، حيث أكدت النتائج تفرد الإنسان واستقلاله الكامل بالسلوك اللُّغوي دون سائر الحيوانات، ولهذا كثيراً ما يُميَّز الإنسان بوصفه ناطقاً؛ "ولذلك فإن أقرب تعريف للإنسان هو أنه حيوان ناطق، وهو تعريف يرقى باللغة حتى يجعلها شطر ماهية الإنسان، فاللغة هي الإنسان، وهي مظهر حقيقته، ومجلِّية ذاته".
واللغة بالنسبة للإنسان لا تقف عند حدِّ كونها خصوصية تميِّزه عن سائر أنواع المملكة الحيوانية، بل إنها تتعدى ذلك لتدخل– بصورة عضوية وعميقة– في بناء الإنسان بوصفه إنساناً؛ فالإنسان لا يكون إنساناً على الحقيقة إلا باللغة، فهي"سلوك معقَّد يتخلل في أعماق المجالات المعرفية والوجدانية للإنسان"، وتدخل في تكوينه وبنائه العقلي، إضافة إلى أنها تمثل "أهم جوانب الحياة النفسية والاجتماعية للفرد، فهي أساس العلاقات الاجتماعية، ووسيلة التواصل النفسي بين الأفراد"، حيث" تصبغ الفرد بالصبغة الاجتماعية، وكلمَّا ازداد الفرد توغلاً في عضويته في المجتمع يزداد دور اللغة أهمية لا في حياته الاجتماعية فحسب، بل في سلوكه وإحساسه وتفكيره"، فاللغة– من الناحية الاجتماعية – ليست وسيلة الإنسان للتعبير عمَّا في نفسه فحسب، بل هي أبعد من ذلك؛ حين تعمل عملها في استثارة السامع، والتأثير فيه، ودفعه نحو الحركة والعمل، وأبعد من هذا وأعمق حين يُطرح "مفهوم اللغة كأنها كائن حي وليست مجرد وسيلة اتصال، إلى درجة أن أبناء تلك اللغة يتعلَّقون بها تعلُّقهم بالكائنات التي يصعب عليهم العيش بعد موتها"، وقد أشارت دراسة أجريت في إحدى المناطق الفرنسية التي كثرت فيها حالات الانتحار إلى هذا المعنى العميق في صلة الإنسان بلغته، وعظيم تعلُّقه بها، فقد كشفت الدراسة عن وجود علاقة بين كثرة حالات الانتحار، وبين "إحساس سكان تلك المنطقة بالإحباط بسبب تراجع واضمحلال لغتهم الأم"، فاللغة بهذا المعنى تتخطى بالإنسان حدود الزمان والمكان، حتى إنها لتخترعهما له اختراعاً، فتربط له بين الماضي والحاضر، حين تحفظ له تراثه الذي يعتز به، فتفتح له آفاق المستقبل، فهي بهذا المفهوم أساس مهم في عملية التنشئة الاجتماعية للإنسان، وضرورة لابد منها في بناء كيانه الإنساني بوصفه إنساناً وليس شيئاً آخر.
ولما كانت اللغة بهذا العمق المتجذِّر في طبيعة الكيان الإنساني فإن الطفل من خلال المعاشرة، وبدون أيِّ جهد تعليمي مقصود وموجَّه: يستطيع بسهولة تعلُّم أيِّ لغة مهما كانت معقدة، مادام أنه يعيش في بيئتها، ويحتكُّ بأهلها؛ فالأطفال بالفطرة يولدون غير مهيئين للغة بعينها، وإنما هم على استعداد تام لتعلم أيَّة لغة تُعرض عليهم في بيئتهم الأولى، ومن المعلوم "أن الإنسان يُولد مزوَّداً بكفاية وراثية تُؤهله للانطباع والتعلم من البيئة الخارجية"، وأكثر التفاعلات الاجتماعية تأثيراً فيه هي اللغة؛ فإن تقبُّل طبيعته الفطرية لاكتساب اللغة يشبه – مع الفارق– تقبُّل معدته للغذاء، ورئته للهواء، وقدميه للحبو والمشي، فهو أمر فطري جبليّ، لا تنفكُّ عنه خبرة الطفل في سنواته الأولى، ولاسيما قبل سن السادسة من عمره؛ فإنه يكتسب اللغة كأفضل ما يكون قبل هذه السن، وتبدأ بعدها أول درجات البطء في تعلُّم اللغة، ويستمر ذلك البطء حتى مرحلة البلوغ من عمر الطفل، حينما يصبح –تدريجياً– تعلم اللغة ضعيفاً بصورة واضحة، ومن هنا برز الجدل بين المهتمين حول السن المناسبة لتعليم الطفل اللغة الأجنبية – بصورة متقنة، دون أن تؤثر سلباً على لغته الأصلية؛ وذلك بهدف تكوين اتجاهات جديدة نحو العالم، للتعامل مع مفهوم العولمة، لاسيما وأن المناهج الحالية – في العموم – لا تلبي حاجات المجتمع، والحاجة أصبحت ملحة لكثير من العلوم والمعارف المتاحة بغير العربية عبر مختلف وسائل الاتصال ومراكز المعلومات.
وقد كان لهذا النزاع بين المهتمين – وبخاصة التربويين منهم – صداه في الدول العربية، ولاسيما في دول مجلس التعاون الخليجي المتطلعة نحو التنمية الشاملة، والخروج من أزمة التخلف الحضاري، فقد اتخذت بعضها – بالفعل– خطوات جريئة باتجاه تعليم اللغة الإنجليزية – بصورة خاصة – في المرحلة الابتدائية، لاسيما وقد سُمح بتعليمها– منذ زمن ليس بالقصير – في المدارس الابتدائية الأهلية. إلا أنه – حتى الآن– لم يقف الباحث على دراسة ميدانية جادة في تقويم هذه التجارب الخليجية، من جهة جدواها في اكتساب الأطفال اللغة الجديدة بصورة متقنة، ومن جهة سلامة لغتهم الأم من التأثير السلبي لتعلم اللغة الجديدة، إلى جانب دراسة مدى تأثير اللغة الجديدة على ثقافة الطفل المسلم، وانتمائه الحضاري للأمة الإسلامية، ومع ذلك فإن جمعاً من المتخصصين التربويين واللغويين والنفسيين: يجزمون بخطأ تدريس لغة أجنبية لطفل المرحلة الابتدائية، ويقطعون بتأثيرها السلبي على لغته الأم، حتى بلغ بأحدهم نقل الإجماع على ذلك، بحيث يزداد الأثر السلبي من جرَّاء تدريس اللغة الأجنبية على اللغة الأصلية بقدر كثافة حضورها، وكثرة استخدامها، إضافة إلى المشقة التي
لا تنفك عن خبرة الطفل، والمعاناة التي يلقاها حين يتعلم لغتين في وقت واحد، في حين يبقى تعلُّمه لغة بعد أخرى أهون عليه وأيسر من تعلمهما في وقت واحد. ومع كل هذا – أيضاً– فإن تعلُّم الطفل للغتين في وقت واحد – مع ما في ذلك من الأثر السلبي والمشقة – يبقى أسهل من تعلم الشخص الكبير للغة ثانية، بعد رسوخ لغته الأم.
وبالرغم من الجدال الذي يمكن أن يصدر عن الأطراف المتنازعة في هذه القضية إلا أنه من المُسلَّم به أنه "متى أُتيح للغتين متجاورتين فرص الاحتكاك: لا مناص من تأثير كل منهما بالأخرى، سواء تغلَّبت إحداهما أم كُتب لكلتيهما البقاء"، وبعبارة أخرى: "إن أيَّ احتكاك يحدث بين لغتين، أو بين لهجتين– أياً كان سبب هذا الاحتكاك، ومهما كانت درجته، وكيفما كانت نتائجه الأخيرة– يؤدي لا محالة إلى تأثر كل منهما بالأخرى"، وهذا التأثير السلبي الذي لابد أن تُخلِّفه اللغات المتجاورة بعضها في بعض: يضع المختصين والمسؤولين أمام قرار صعب حينما يكون القرار في حق أطفال المرحلة الابتدائية، الذين يعيشون مرحلة بناء لغتهم الأصلية، ويتدربون على أساليبها، وآليات كتابتها، وأصعب من ذلك حينما يكون القرار في حق اللغة العربية التي لم تعد – في هذا العصر– تتحمل كثرة حضور اللغات الأجنبية، وانتشار مصطلحاتها، التي باتت تهددها في قدراتها على مجاراة العلوم والمعارف الحديثة، علاوة على العُجْمة التي لحقت بأبنائها، والعداء المستميت، والكيد المتواصل من أعدائها، ولعل هذه الأسباب – في مجملها– كانت وراء تأجيل مجلس الوزراء بالمملكة العربية السعودية قرار تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية حين عُرض عليه الموضوع للمرة الأولى، وإخضاع هذا القرار لمزيد من الدراسة والفحص إلى أن استقر الأمر على تدريسها.