الخيال من قوى العقل الباطن، وحواسِّه الخفية التي تنطبع فيها أمثلة الصور المحسوسة بتأليفات ذهنية تحاكيها، فيُقيم العقل من خلال التخيل علاقة ذهنية بين الصورة المُدركة بالحواس، وبين الصورة الذهنية المُدركة بالتذكر، فهو امتداد لحقيقة معلومة، وواقع قائم ليضيف إليها جديداً مبتكراً.
وقوى التخيُّل متوسطة الموقع بين العقل والفكر، وبين السمع والبصر، فتأخذ في حال اليقظة من حاستي السمع والبصر وتُسْلِمُ إلى العقل والفكر، وتأخذ في حال النوم من العقل والفكر وتُسْلِمُ إلى السمع والبصر.
وتكمن أهمية الخيال في كونه أساس الإبداع والتطور الإنساني؛ فهو يجسِّد " القدرة على الإبداع والابتكار، والخروج عن المألوف، كما أنه يمثل بنية افتراضية عناصرها من نسيج الخيال "؛ إذ لا يحدُّه معْلَمٌ كوني، ولا معرفة محدودة؛ بل ينطلق أبعد من هذا كله باحثاً عن التطور والتقدم، فهو بذلك مادة العالِمِ، والأديب، والمفكر، والمخترع.
وأما أهمية الخيال من الجهة الخلقية والسلوكية: فإنه يساعد المتربي على مواجهة الواقع الخطأ بانحرافاته المختلفة في مقابل صور الكمال المطلق، حيث يعمل التخيل على تفريغ هذه الصور المثالية في مواقف ذهنية لا يسمح بها الواقع المحسوس؛ حتى ترسخ في نفس المتربي، وتصبح عنده صوراً شعورية يمكن أن يُصحَّح بها الواقع، فتهفو نفسه للترقي الخلقي نحو الكمال المُتخيَّل؛ ليصبح في المستقبل واقعاً سلوكياً محسوساً.
وأما أهمية الخيال في إحياء عوالم الغيب في النفس الإنسانية، وإيقاظها الحقائق الكونية الكبرى: فهذا أعظم مجالات الخيال البشري على الإطلاق، حيث تنشغل النفس " في تصور الكمال والجمال في العالم الآخر، فيتغذَّى خيالها بمئات من المناظر والمشاهد والصور والحالات "، التي تنمو عليها شجرة الإيمان، حيث تجد النفس الإنسانية مجالات عظيمة رحبة للانطلاقة الخيالية المنضبطة، والتَّوهم العقلي الصادق، كما في قوله U عن كمال علمه بالمخلوقات، وحركتها، وتمام سلطانه عليها: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، وقوله سبحانه وتعالى عن كمال قدرته: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:260]، وقوله عز من قائل عن إحاطته بالإنسان - خاصة - ظاهراً وباطناً: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أََقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٍ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٍ } [ق:16-18].
وفي جانب السنة النبوية أيضاً ما يحفز على هذا المعنى من التخيُّل المثمر كقوله e في لفت الأفهام والأنظار نحو مجالي رحمة الله U وعذابه:(( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنَّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنَّته أحد ))، وقوله e لتنبيه الغافلين إلى حقائق عوالم المخلوقات المحتشدة في الأكوان: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء، وحق لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً … ))، وقوله أيضاً e في وصف الجنة: ((إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد ))، إن هذه النصوص القرآنية والنبوية وغيرها كثير تفتح للإنسان المحدود بحواسه الضعيفة القاصرة مجالات رحبة واسعة من الخيال العقلي لعالم الغيب، وتدفعه للتَّوهُّم القلبي الصادق لهذه الحقائق حتى تصبح جزءاً أصيلاً من كيانه الروحي، فينبعث بتأثيرها ليربط - بصورة دائمة - بين عالمي الغيب والشهادة برباط وثيق، باطنه الإيمان الصادق الذي لا شك فيه، وظاهره السلوك السوي الذي لا انحراف معه.
إن الناشئ المسلم أحوج ما يكون لهذا الخيال المنضبط، لا سيما الفتيات، فقد ثبت في بعض الدراسات أن البنات في العموم أقل قدرة على التخيُّل من الأولاد، فليس للإنسان وسيلة لتنمية هذه الموهبة العقلية الربانية إلا من خلال التدريب المستمر عليها، فإن أيَّ قوة إنسانية - ظاهرة كانت أو باطنة - إنما تقوى وتنشط بكثرة الرياضة والمران، وإمعان الفكر، وإدامة النظر، إلا أنه ينبغي الحذر من خطورة سلبيات الخيال الجامح، الذي لا ضابط يحكمه، ولا نهج يوجهه بحيث يسترسل الإنسان معه إلى درجة الإفلات من حقائق الواقع لينتقل به الخيال إلى عالم الأوهام الكاذبة؛ ليُشبع به خُلَّة في نفسه، يحتال لها بنسيج من التَّخيُّلات والصور الذهنية الزائفة؛ فإن " الأصحاء نفسياً يسبحون في الأخيلة البناءة، بينما يسبح المرضى النفسيون في الأخيلة السلبية الهدامة "، فالخيال قد ينحطُّ عند بعضهم إلى أدنى مراتب الضعف، كما هو عند مرضى العقول الذين يعجزون عن ممارسة القدرة التخيلية، وربما زادت درجته إلى حدِّ الإغراق المشوِّه للواقع، كما هو حال كثير من الفنانين، الذين يتخذون من التفكير الخيالي مهنة لهم، ومن هنا فلابد من مراعاة ضبط الخيال العقلي بما يُحقق مصلحة الإنسان النفسية، ويُنمي موهبته العقلية في " توظيف ملكة التخيل للارتقاء بمستوى التفكير، والتدريب للمساعدة على زيادة القدرات الإبداعية "، بصورة إيجابية نافعة.