الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد فإن الأمراض التي تصيب الإنسان تتنوع بحسب مواقع الضعف فيه والخلل، فإن المرض غالباً ما يصيب أضعف عضو يمكن السيطرة عليه والفتك به، ولا تقتصر الأمراض على الجانب البدني من الإنسان فإن الناحية النفسية والعقلية والروحية قد يصيبها أيضاً شيء من المرض المخل بأدائها وسلامتها، وقد يكون المرض الذي يصيبها أشد مما يصيب الناحية البدنية من الإنسان، فإن المرض الذي يصيب الجانب الغيبي المستتر من الإنسان أشد صعوبة في تشخيصه وعلاجه، ومن هنا فإن أزمة التطرف الفكري، والجنوح عن الاعتدال الديني مرض يصيب الجانب الغيبي من الإنسان، فيفتك به، وغالباً ما يصيب صغار السن وضعيفي الخبرة،وهو ما عبر عنه الحديث النبوي: " أحداث الأسنان سفهاء الأحلام "، وهذا يشير بوضوح إلى ضعف الخبرة، وربما إلى شيء من الضمور العقلي في سفاهة الأحلام.
ولا ينبغي حصر الخلل العقلي وسفاهة العقول في المتطرفين الدينيين فقط، فقد يصيب أشباههم من المتطرفين في الجانب الآخر نحو التفلت الديني، ونبذ الالتزام بالسلوك الديني، وما هو أشد حين يتشرب أحدهم بالفكر الماركسي أو القومي أو العلماني أو غيرها من التوجهات التي تغلب على صاحبها فيُغلق عليها، ويثبت على مبادئها إلى آخر العمر، وربما تأذى بذلك، وعُذّب وسُجن ومع ذلك يصبر على مبادئه0
والمقصود أن الفكرة تغلبت على صاحبها سواء أكانت دينية أو غير دينية حتى تملك عليه عقله وقلبه وتتحول إلى مرض عضال يصعب تشخيصه بدقة، ويتعذر علاجه0
وفيما يتعلق بالتطرف الديني والغلو الذي ظهر على الساحة السياسية مؤخراً فيمكن حصر أسبابه وعلاجه في النقاط التالية :
1- ضعف الحضور الديني الصادق المعتدل بصورة عامة في واقع الحياة الإسلامية وأنشطتها المختلفة، وهذا يتطلب إعادة صبغ حياة المسلمين بالصبغة الشرعية الإسلامية قولاً وعملاً.
2- فقدان القدوة الصالحة والنموذج الواقعي في الآباء والمعلمين والعلماء، فلا يجد الشاب في المربين من يملأ عينه-إلا أن يكون شيئاً نادراً-حين يقابل هؤلاء بعلماء السلف والمربين السابقين فيجد الفرق الكبير بين الأجيال، وهذا يتطلب وعي المربين بأهمية القدوة في حياة الشباب، مما يدفعهم إلى الصدق في أقوالهم وأعمالهم، مع توعية الشباب أيضاً بضرورة الوعي والقناعة بأن القدوة الكاملة المطلوبة على نهج السلف تكاد تكون معدومة في هذه العصور المتأخرة، فقد توزَّعت القدوة في أكثر من فرد، فمن الصعوبة بمكان جمع الصفات الحسنة بكاملها في شخص واحد، كما كان الحال في جمع من السلف إلا أنه يمكن مشاهدة القدوة في جمع من الناس يتكون من مجموعهم القدوة، فيقتدي الشباب من كل شخص من المربين فيما أحسن فيه، وبرز فيه ويغض الطرف عن جوانب ضموره وانهزاماته0
3- بروز مفهوم العولمة وآثارها الخطيرة على هوية الأمة الإسلامية واندفاع العالم الإسلامي نحوها مسيَّراً مغلوباً، يقود شعوبه نحو الاستسلام للواقع، دون عمل أي مشروع صادق للخروج من هذا المأزق الحضاري الخطير، فضعفت بالتالي ثقة الجماهير والشباب بغالب القيادات العربية والإسلامية في الخروج من هذه الأزمة، وأصبح الرجاء في حلٍّ جديد على غير النمط العربي والإسلامي المعهود الذي أثبت الواقع إخفاقه، وأصبح الناس مستعدين لقبول رأي جديد، ولاسيما إذا كان جريئاً، يبعث في الجماهير أملاً جديداً0
ولاشك أن هذا الواقع الحضاري لا يمكن أن تحله جماعة من الناس، أو دولة من الدول وإنما هو قرار الأمة بأكملها حين تتوجه بصدق نحو خلاصها من هذه الأزمة الحضارية معتمدة على الله أولاً بأخذ دينه بقوة ثم على وحدتها السياسية وتعاونها الاقتصادي، ولئن كان هذا أملاً بعيداً في طبيعة ظروف الحياة السياسية المعاصرة إلا أنه الوحيد للخلاص من هذه الأزمة، وإعادة الثقة إلى القيادات العربية والإسلامية 0
4 – بروز الهيمنة الغربية وظهور القطب الواحد في إدارة الحياة السياسية المعاصرة، وخضوع العالم لإرادتها طوعاً أو كرهاً، مما دفع بعضهم – ممن يُتَّهمون بالغلو والتطرف– لمحاولة النيل منها، ولو باليسير الذي يزعجها ويزعج حلفاءها.
ولا شك أن هذه القوى الغربية المتنامية في حاجة إلى قوة أخرى في العالم تقابلها،وتحدُّ من نفوذها، فإذا لم تكن قوة إسلامية فعلى الأقل أن تكون قوة معارضة لها تحد شيئاً من انطلاقها وتسلطها على المسلمين ؛ بحيث تعمل الأمة المسلمة على إظهار هذه القوة لكف الغرب عن تسلطهم حين لا يستطيعون هم أن يكونوا قوة،وهذا الوضع لا شك يخفف كثيراً من النقمة الشعبية العربية والإسلامية التي لم تعد تثق في الأصوات والشعارات القديمة،وأصبحت أكثر تعلقاً بالجديد من القوى المعارضة للتسلط الغربي.
5- يعتبر الجهل بمفاهيم الدين ولاسيما في القضايا الشائكة والحرجة مثل قضايا التكفير, والحكم بغير ما أنزل الله، والخروج على الحاكم الجائر، ونحوها من المسائل الفقهية الصعبة التي تحتاج إلى الفهم الدقيق والبحث العلمي الرصين، هذا النوع من البحث مفقود كلياً أو جزئياً لدى غالب الشباب ؛ إذ يغلب على أكثرهم السطحية العلمية، والتعلق بمفاهيم محدودة لا ترقى إلى حد يجيز لصاحبها التمسك بها، والموت في سبيلها0
وهذا الوضع العلمي المتدني يتطلب بالضرورة إشاعة العلم النافع، والفهم الصحيح بالكتاب والسنة ومذاهب العلماء في هذه القضايا الكبرى مما يفرض بالضرورة نزول بعض العلماء إلى الساحة العامة، خاصة في الساحات الشبابية ؛ لتولى – بصورة مباشرة – عملية التربية والتعليم, والعيش في أوساط الشباب وعن قرب منهم.
6- تقوم وسائل الإعلام المختلفة بدور خطير في إثارة حفيظة الشباب المتدين من خلال ما تبثه من البرامج والأفلام والمسلسلات الساقطة، والغناء الفاحش، والصور الخليعة، والقصص السخيفة، في الوقت الذي قد لا يجد الإعلام الهادف سبيله إلى هذه الوسائل، وهذا الوضع يتطلب إعادة النظر في واقع هذه الوسائل الإعلامية في ضوء المفاهيم التربوية الإسلامية، والخروج بأفكار صالحة توجه العملية الإعلامية توجيهاً يتوافق مع منهج الإسلام، وفى الوقت نفسه يكون مشوقاً وهادفاً ونافعاً وصادقاً 0
7- محاولة فهم طبيعة الشباب المتدين وكيف يفكر, وهذا لا يكون إلا من شخصية إسلامية خاضت التجربة الدينية وليس من شخصية حظها من التدين القراءة أو التأمل ؛ إذ إن التعبير عن التجربة الدينية لا يمكن أن يفصح عنها إلا من عاشها على الحقيقة، وليس هو فقط من درسها أو قرأ عنها 0
8- ضرورة قيام المؤسسات الدينية بواجباتها المناط بها مثل التعليم، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والإرشاد، والفتوى ونحوها من القضايا الدينية بصورة أكثر فعالية وحضارية بحيث لا يشعر المواطن أو الشاب بحاجة هذه المؤسسات إلى مساعدة، أو ربما الاعتقاد بقصورها وانتهاء دورها، مما يدفعه إلى التصدي بنفسه لهذه المواقع، والقيام نيابة عنها بوظائفها 0
9- فتح قنوات اتصال هادفة بين المواطن والمسؤول يتبادلان فيها النظر والمشورة عبر وسائل الإعلام المختلفة 0
10- محاولة إظهار نموذج الإنسان الصالح المتدين الحق القائم بالحقوق, وإبرازه باعتباره قدوة للشباب في الوقت الذي يؤخر فيه نموذج الإنسان المنفلت غير المتدين فلا يبرز ولا يتصدر 0
11- الوعي بحجم القوة النفسية والثبات التي يتحلى بها الشخص المتطرف إلى درجة يصعب معها تغيير اتجاهه بالقوة والعنف، مما يتطلب تلمس الوسائل السلمية الصالحة لحسن توجيهه,وتفريغ طاقته في اتجاهات تخدم الأمة ولا تهدمها 0
12 – السعي بفتح جبهة مع العدو الصهيوني على أرض فلسطين تفرغ نقمة الأمة تجاهه, وتستهلك طاقات الشباب الغضبية في الاتجاه الصحيح, وتسمح – في الوقت نفسه – بساحة للتفاوض مع قوى الغرب بصورة أفضل، ولعل نموذج حزب الله في جنوب لبنان – مع التحفظ على مضمونه الفكري – ما يدل على إمكانية الضغط على القوى الغربية من خلال العمل العسكري الموجه نحو العدو الصهيوني.
13- العمل بجد نحو إشغال الشباب بالمهن، والوظائف، والأنشطة الهادفة بأنواعها، والسعي في تأهيلهم تأهيلاً مبكراً للحياة الاجتماعية ؛ بحيث يدخل الشباب ضمن مجتمع الكبار مبكراً، ويتأهل للعمل والوظيفة والزواج بصورة لا تسمح له بفراغ يفسد عليه فكره وخلقه0
14-إعادة تأهيل الشباب المتطرف من جديد والعفو عمن ثبت صلاحه وتوبته.
15-إضافة فقه الواقع وأحكام الجهاد في ضوء الكتاب والسنة ضمن المنهج المدرسي، بما يوضح للنشء الفقه الصحيح للنظر في واقع الأمة وظروفها المعاصرة، والواجب تجاهها.
هذا ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد.