يُقصد بالثقافة الإسلامية: نهج حياة الأمة في جميع جوانبها، حيث تتكون من عنصرين أساسين، الأول: الشكل: وتمثله اللغة العربية، والثاني: المضمون ويمثله الإسلام، ومن هنا يظهر الارتباط الوثيق بين اللغة العربية من جهة، والعقيدة الإسلامية من جهة أخرى، "فالدين واللغة منذ النشأة الأولى متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل"؛ لهذا فإن علاقة المسلم العربي بلغته أكبر بكثير من علاقة غيره بلغته، فكما أن اللغة برموزها ومفاهيمها خاصية إنسانية يتميز بها الإنسان عن الحيوان، فكذلك نوع اللغة أيضاً خاصية شعبية، تُميِز الأمم بعضها عن بعض، فما زالت الشعوب المختلفة تهتم بلغاتها، وتحرص على ازدهارها ونشرها لهدفين اثنين:
الأول: لتحافظ على تراثها ومدَّخراتها التاريخية،كما فعل المسلمون الأوائل حين جعلوا العربية لغة المنهج ولسان التعامل؛ لأنها وسيلة الأمة لنقل ثقافتها من جيل إلى آخر، والمرآة التي تعكس تاريخها واهتماماتها.
الثاني: لتربط باللغة القومية بين أفراد الشعب الواحد برباط وثيق؛ لأنها الجزء المشترك بينهم، والوطن المعنوي لهم، فهي -بذلك- الوسيلة الفعاَّلة لعملية التطبيع الاجتماعي، والصَّهر القومي للأمة في نظام اجتماعي واحد؛ لأن الأمور المشتركة بين الأفراد تُعدُّ وسيلة اتصال بينهم، تُشعرهم بالوحدة، والعمل المشترك حتى وإن لم يقصدوا التواصل بينهم، وقد أشارت بعض الدراسات العلمية إلى وجود علاقة قوية بين هجرة الأدمغة العربية وانجذابها إلى أوروبا، وبين استخدام اللغة الأجنبية، وما هذا التواصل العميق، والارتباط الوثيق بين المجموعات اليهودية المتفرقة في المنفى: إلا بسبب رابط اللغة العبرية، فما زالوا يوصون بها عبر مؤتمراتهم، ويؤكِّدون على تعلمها حتى تكون أداة الاتصال والتواصل بينهم.
ومن خلال هذين الهدفين لفعاليات اللغة، والتأثير العميق الذي تخلِّفه على أهلها: يتضح ارتباطها الوثيق بالناحية الاعتقادية في التصور الإسلامي، ومدى تأثيرها الفعَّال في تكوين الهوية المتميِّزة للأمة الإسلامية، فالسَّعي لإضعاف لغة شعب من الشعوب هو إضعاف لفكرها بالدرجة الأولى، وطعن في أصولها وثوابتها الاعتقادية، والتاريخية، والثقافية؛ ولهذا قصد أعداء الإسلام منذ قرن مضى إلى إضعاف اللغة العربية، وتشويهها عبر حملاتهم التغريبية المتعددة، فغزت اللغات الأعجمية "حياة الإنسان العربي باستيلائها على معظم الوظائف والأدوار الحيوية التي كان من المفروض أن تؤديها اللغة القومية"، حتى أصبح كثير من الجامعات في بلاد المسلمين لا تعتمد اللغة العربية، وأخذت -إلى جانب هذا- الدعوة إلى العامية "طريقها إلى عقول كثير من المثقفين، ولم تعد غريبة المجاهرة بالدعوة إلى تعليم اللغات الأجنبية في المراحل الدراسية الأولى، فكثر على اللغة العربية الهجوم من اللغات الأخرى، حتى أصبح ضعف مستواها عند طلاب المدارس من الجنسين بيِّناً لا يخفى.
إن على رجال التربية من المسئوولين عن ثقافة الأمة المسلمة المعاصرة، ومنهج تربيتها إدراك: "أن اللغة لا تُعلَّم إلا من خلال الثقافة والحضارة التي أوجدتها، فاللغة بمعناها الأوسع ما هي إلا تعبير عن مدنية، ووعاء لتراث حضاري، ولقد أكَّدت الدراسات الميدانية أن الدارس الذي لا يحترم حضارة اللغة التي يتعلمها لن يستطيع أن يتقدم في تعلم هذه اللغة مهما بذل من جهود"، وأن استيعاب لغة ما لا يمكن أن ينفك عن استيعاب بيئتها الأصلية التي نشأت فيها؛ ولهذا وردت هذه اللغات الأجنبية على الأمة الإسلامية عبر المناهج اللغوية المستوردة محمَّلة بثقافة بيئاتها المنحرفة، تبث سمومها الفكرية، والأخلاقية عبر مصطلحاتها الخاصة، ومعاني كلماتها، وأساليب استخدامها.
إن على المسلم المعاصر الذي استقر في نفسه مبدأ الولاء والبراء أن يعلم أن استيعاب لغة من اللغات بصورة جيدة لا يحصل له إلا ببلوغ أصولها، ولا يكمل عنده إلا مع وصول التآلف بينه وبين أهل تلك اللغة إلى منتهاه، وأن تنكُره للغته القومية دليل انهزاميته، وضعف شخصيته.