47ـ فهم عقيدة القضاء والقدر من الناحية الواقعية

إن الواقع الذي يعيشه الإنسان يقبل بعقيدة القضاء والقدر، ويحمل الإنسان مسؤولية أفعاله؛ حيث يشعر الإنسان بحرية في الحركة، والاختيار، والإرادة، ويرى في نشاطاته المختلفة علاقة الأسباب بالنتائج، ويرى تخلف النتائج إذا لم تتقدمها الأسباب الصحيحة الكافية، فهذه الأسباب تفعل فعلها وتحقق نتائجها ضمن نظام الله تعالى، الذي أودع في هذه الأسباب خصائصها المؤدية إلى النتائج فلا يقبل العقلاء من طالب المعالي الراغب في النجاح أن يهمل دروسه معتمداً على ما قُدِّر له في الأزل، ولا يقبلون من المكلَّف الإنفاق على أسرته أن يهمل طلب الرزق معولاً على القضاء والقدر، وكذلك مسألة  الخير والشر، والهداية والضلال، فالأصل في الكل سعي الإنسان نحو ما ينفعه، ونفوره مما يضره، وتحمُّله لمسؤولية اختياره الحر، ضمن ما قدَّره الله له من الخير أو الشر، المحجوب علمه عنه، والواقع يشهد أن السَّارق لو اعتذر عن قبح فعله بالقضاء والقدر: لم يُقبل منه، وكذلك الطالب المفرِّط في دروسه لا يشفع له الاعتذار بالقضاء والقدر، في حين يٌقبل عذر المضطر، الذي لم تُتح له فرصة الاختيار، وكل ذلك يشهد به الواقع الإنساني دون نكير.

ولعل من الأمثلة الواقعية على ذلك أيضا: سيارتان اصطدمتا في الطريق عند إشارة مرور، إحداهما كانت إشارتها خضراء، والأخرى كانت إشارتها حمراء، فلو اعتذر صاحب الإشارة الخضراء بالقضاء والقدر تصبُّراً على المصيبة: قُبل منه، وعُذرَ، وكان ممدوحاً على ذلك، في حين لو اعتذر صاحب الإشارة الحمراء بالقضاء والقدر ليُعذر في خطئه وتفريطه: لم يُقبل منه، وكان مذموماً بمجرَّد اعتذاره بهذا العذر، مع أن الحادث كله كان معلوماً لله تعالى، مقدَّراً عنده في الأزل، لهذا قال السلف: "القدر يُحتجُّ به عند المصائب لا عند المعائب".

وقد أجمل الإمام العز بن عبد السلام ~ٍٍِِ هذه القضية في علاقة الأسباب بالمسببات حيث قال: "التكاليف كلها مبنية على الأسباب المعتادة من غير أن تكون الأسباب جالبة للمصالح بأنفسها، ولا دارئة للمفاسد بأنفسها؛ بل الأسباب في الحقيقة مواقيت للأحكام ولمصالح الأحكام، والله هو الجالب للمصالح الدارئ للمفاسد، ولكنه أجرى عادته وطرد سنته بترتيب بعض مخلوقاته على بعض لتعريف العباد عند وجود الأسباب ما رتب عليها من خير فيطلبونه عند وقوعها ووجودها، وما رتب عليها من شر فيجتنبوه عند قيامها وتحققها… ولو شاء الله لقطع كل مسبب عن سببه، وخلق المسببات كلها مجردة عن الأسباب، وكذلك لو شاء لخلق الأسباب كلها مجردة عن المسببات، لكنه قرن الأسباب بالمسببات في مطرد العادات"، وقد يغالي بعضهم في هذه المسألة فيرفض نسبة الأعمال الإرادية للإنسان، حيث يرى بعض المتكلمين أنه لا يجوز نسبة الأفعال لغير الله تعالى، فلا يُقال النار تحرق، ولا يُقال السكِّينة تقطع، وإنما الله الذي يحرق، والله الذي يقطع، وهذا الرأي منهم خطأ، وغلو في فهم عقيدة القضاء والقدر؛ إذ إن من حكمة الله تعالى في خلقه أن جعل خواصَّ للمخلوقات، فأعطى صفة الإحراق للنار، وأعطى صفة القطع للسكين وهكذا … إلا أن حصول الحرق أو القطع لا يكون إلا بإذن الله U، وليس من عند هذه المخلوقات من ذات نفسها، فقد سلب الله بقدرته لإبراهيم u خاصية الحرق من النار حين ألقي فيها، وسلب له أيضًا خاصية القطع من السكين حين شرع في ذبح ابنه تنفيذًا لأمر الله تعالى.