من خلال احتكاك الفرد في المجتمع، وتفاعله في الوسط الجماعي: ينتج عن ذلك أنماط سلوكية مختلفة حسب المواقف والأشخاص، فيترتب على ذلك بروز واجبات من ناحية، وحقوق من ناحية أخرى.
ومن أهم هذه الواجبات التي يبرزها الاحتكاك الأسري: برُّ الوالدين؛ إذ يمثل أعظم الحقوق على الأبناء بعد الإيمان، حيث وجَّه المولى U إليه في مواضع عديدة من كتابه الكريم؛ منها قوله I : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24] وقوله عز من قائل أيضاً: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
فجعل I بر الوالدين، ومعرفة فضلهما من الواجبات العظام على الأبناء، وقرن رضاه برضاهما، وتوحيده بحسن صحبتهما.
وقد اعتبره الرسول r من أعظم القربات وأحبها إلى الله تعالى بعد الصلاة المفروضة، وجعل الوفاء الكامل بحقهما في الدنيا من أعسر الأمور وأشدها، فقال عليه الصلاة والسلام:(لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه), ولما سُئل معاذ بن جبل t عن حق الوالدين؟ قال: "لو خرجت من أهلك ومالك ما أديت حقهما".
وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية والنبوية أثرهما الكبير في حياة الأمة المسلمة، فهذه فاطمة السيدة الكاملة، والفتاة البارَّة رضي الله عنها ، كانت إذا دخل عليها أبوها رسول الله r:(قامت إليه مستقبلة وقبلت يده), وكانت إذا أمرها بأمر: أطاعته، ولم تخالفه حتى وإن كان على غير ما تشتهي.
وقد كان من السلف من يحمل أمَّه في الطواف رغبة في البر بها، ومنهم من كان يتكلف إطعامهما، والإشراف على ذلك بنفسه، ويروي أحدهم كيف كانت ابنته تبرُّه فيقول: "كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلْقَةٌ في ذراع كأنها جمَّارة، فلا تقع عينُها على أكْلة نفيسة إلا خصتني بها".
إن ترتيب الأجر العظيم للأبناء على بر الآباء يرجع إلى كونه نوعاً من الجهاد الذي يحتاج إلى تكلُّف ومصابرة، في حين يصير عطاء الآباء تجاه الأبناء فطرياً، ينبعث تلقائياً مع نبضات القلب وسريان الدم، بلا تكلف ولا عظيم مجاهدة؛ لهذا جاء التوجيه للأبناء ببر الآباء، ورتَّب الشارع الحكيم لهم عظيم الأجر على ذلك.
والفتاة أقرب إلى الامتثال بهذه التوجيهات من الذكور، حيث تميل بطبعها في سن الشباب نحو إرضاء الوالدين، فتظهر من الطاعة وامتثال الأوامر، والتقيد بمعايير الكبار، وحسن التَّخلُّق ما يفوق إخوتها الذكور في هذه المرحلة، مما يجعل مبدأ البرِّ عند الفتيات أقرب للتحقق والحصول، فيكون ذلك حافزاً لهن للتمتُّع بتحقيق هذا الواجب الإسلامي العظيم، إلى جانب شعور الفتاة بالراحة النفسية، والاستقرار الانفعالي الذي يحدثه قبولها للبقاء تحت سلطان الوالدين في الأسرة والرضا بتوجيهاتهما وأوامرهما.