إن قدراً من الحرية المسؤولة ينبغي أن تتمتع بها الفتاة على نحو يمكن أن يُسهم بصورة طيبة في تنمية شخصيتها الأسرية الحسنة، فالتربية الإسلامية الصحيحة "ليست قهراً، فإن القهر لا يربي النفوس على شيء"؛ والتمتع بقدر من الحرية المعتدلة: من حاجات الإنسان الضرورية، حيث يساعد الفرد الناشئ على تنمية مداركه، وإكمال شخصيته واستقلالها، ولا يمكن أن تتم العملية التربوية بصورة صحيحة متكاملة ما لم تكن مصحوبة بقدر كافٍ من الحرية المنضبطة.
والفتاة - كعضو أسري نامٍ - محتاجة إلى مزيد من النشاط العقلي والجسمي، والروحي؛ لتتهيأ به للنضج الاجتماعي، وتتخفَّف به من مسالك الطفولة وروابطها: حتى تتأهل للزواج ، والاستقلال الأسري، وتتمكن من المشاركة الاجتماعية العامة بصورة أفضل. وكل هذه الاحتياجات الضرورية للفتاة الناشئة: لا يمكن أن تتحقق لها إلا بشيء من الحرية الأسرية المنضبطة، ضمن حدود الآداب في نظام الإسلام الاجتماعي.
ولما كانت طبيعة المجتمعات المعاصرة - خاصة المتقدمة منها - تطول فيها فترة الطفولة، حيث يصعب فيها استقلال الشباب عن أسرهم بمجرد البلوغ، كما هو الحال في المجتمعات البدائية والريفية، حيث يحتاج البالغ إلى سنوات متعددة بعد البلوغ لتحقيق الاستقلال والحرية عن إدارة وإشراف الوالدين، ومن هنا يشعر الشباب بالإحباط، والصراع من أجل تكوين الشخصية المستقلة والتمتع بالحرية، فتظهر من جراء ذلك معاناتهم، ومشكلاتهم الأسرية.
وتعتبر معاناة الفتيات في التمتع بالحرية والاستقلال أقل - في العموم - من معاناة الذكور من الفتيان، خاصة فتيات الطبقة العليا من المجتمع، رغم أنهن - في العادة - يتعرضن في الأسرة لضبط أكبر، إلا أن معاناتهن أقل بحيث يتناسب الضبط والسلطة الأبوية مع مقدار الخضوع الأنثوي المضاعف عندهن.
وإن مما ينبغي أن يدركه الأبوان في هذا الجانب: أن "البرَّ والإحسان لا يقتضيان سلب الحرية والاستقلال" وليس من طبيعة التصور الإسلامي: "أن تتحول طاعة الوالدين: سيطرة من الأم أو الأب، فلا شيء يُقنع الشباب بمثل هذه الطاعة العمياء، التي تحرمه من ثمرات استقلاله الفكري، ورغبته في الإنتاج والعطاء"، فإن من الصعوبة بمكان إقناع الأبناء بنظرات الآباء، وآرائهم - مهما كانت صائبة - في الوقت الذي ضعفت فيه مكانتهم بسبب التغيرات الاجتماعية المعاصرة، ولعل في معاملتهم بأسلوب أرق، وأكثر نضجاً، وأبعد عن معاملة الأطفال الصغار: يُحقق نجاحاً أكبر في ضبط سلوكهم، وخروجهم من هذه الأزمة الاجتماعية بنجاح، فقد جاء عن رسول الله r ما يشير إلى هذا الأسلوب في معاملة الأبناء، فقد رُوي أنه قال:(رحم الله والداً أعان ولده على بره), ولا شك أن مساعدتهم على ضبط سلوكهم، بعدم إثارة عواطفهم السلبية تجاه الوالدين - خاصة في هذا الزمن الصعب - من أعظم وسائل الإعانة على البر، وقد أكدَّ الإمام الغزالي هذه المعاني التربوية الفريدة في مراعاة حاجات الأبناء للحرية، وعدم الإكثار عليهم فقال: "يُعينهم على بره، ولا يكلفهم من البرِّ فوق طاقتهم، ولا يُلح عليهم في وقت ضجرهم، ولا يمنعهم من طاعة ربهم، ولا يمنُّ عليهم بتربيتهم".
إن البلوغ يفعل فعله الخاص في شخصية الإنسان النامي، بحيث يحتاج معه إلى نوع آخر من المعاملة التي تختلف عن معاملة الطفل، لاسيما فيما يتعلق بالحرية الشخصية؛ فإن "جميع البشر بمختلف قومياتهم وشعوبهم ينشدونها ويعشقونها، وينبذون الأسر والقيود، وإذا ما فقدوا حريتهم يوماً ما فإنهم سيحاولون بكل ما في وسعهم استعادتها"، فلا بد من وعي الآباء والمربين عموماً بهذه الحاجة عند الناشيء، فكما أنهم يتقبلون استقلال أولادهم، واستغناءهم عنهم عبر مراحل نموهم، فلا يتضجَّرون من اعتمادهم على أنفسهم في المشي، وفي قضاء حاجاتهم، وفي تناول طعامهم، فكذلك لا بد أن يتقبلوا حاجتهم في سن الشباب إلى شيء من الحرية الشخصية، التي تؤهلهم للاعتماد على أنفسهم في المستقبل.
إن قدراً من الحرية الشخصية اللازمة فيما يتصل بخصوصيات الفتاة، ضمن مفاهيم الشرع الحنيف، والعادات الاجتماعية الحسنة، مما لا يخرج عن حد الأدب: أمر مشروع، بشرط ألا تصل هذه الحرية إلى حد الفوضى: فتفقد أثرها الإيجابي، وتصبح وسيلة للخروج على الآداب الشرعية، والعادات المرعية، فإن الفوضى لا تعني الحرية، بل هما كلمتان متنافرتان، لا يمكن الجمع بينهما، والحقيقة أن الحرية ثمرة من ثمار التنظيم، فلا مكان للحرية دون نظام ينطلق من قواعد أخلاقية.
والفتاة في التصور الإسلامي مكلفة شرعاً، مسؤولة عن تصرفاتها، ومحاسبة عليها، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام:(لا يُتم بعد احتلام، ولا يُتم على جارية إذا هي حاضت), فهي ما دامت مدركة بالغة، فإنها لا بد أن تعرف قدرها، وما يجب عليها تجاه الأسرة والوالدين، وحدود الحرية الشخصية المسؤولة التي يجوز أن تُطالب بها، وتستمتع في نطاقها.