11ـ تحلِّي الفتاة بخلق الحياء

الحياء مشتقٌّ من الحياة – كما يرى البعض – وهو نوع من خوف العار، مركب من عفَّة وجُبن، يبعث في النفس حزناً بسبب شر يصير به الإنسان مذموماً ، سواء سلف وقوعه، أو حضر، أو يُتوقع، وهو رأس الأخلاق وأعلاها، ومن أخص خصائص الإنسان، التي تُميِّزه عن الحيوان، وهو عند كثير من رجال التربية من أعظم وسائلها، وأكثرها نفعاً؛ إذ هو دليل العقل السليم، وعلامة على سهولة عمليتي التربية والتعليم، إلى جانب نفعه الأكيد في إحياء الشعور بالتقصير في جنب الله تعالى؛ مما يدفع الحيي نحو الهمة الصادقة في طاعة الله تعالى. وتختلف طبيعة الحياء الإيجابية عن طبيعة الخجل في كون الخجل يحبس صاحبه في طائفة من المسالك السلبية: كالخوف، والقلق، والضعف، والحيرة التي تُعيق حركة نشاطه الاجتماعي.

وقد جاء عن رسول الله r في فضل الحياء قوله للرجل الذي نهى أخاه عن الحياء:(دعه فإن الحياء من الإيمان), وجعله u  من شعب الإيمان؛ بل جعله قريناً للإيمان بحيث لو زال أحدهما زال الآخر، فالحياء خلق فاضل، لا يأتي صاحبه إلا بالخير، كما قال عليه الصلاة والسلام:(الحياء لا يأتي إلا بخير), وهو زينة السلوك الإنساني حيث قال عليه الصلاة والسلام:(ما كان الفحش في شيء إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء إلا زانه).

ولما كان خلق الحياء بهذه المكانة في التصور الإسلامي، وبهذه الأهمية الكبرى في التربية: جعل الله تعالى شدَّته وأبرز مظاهره من خصوصيات مرحلة الشباب؛ لغلبة الشهوة عندهم وكثرة الخطأ، وجعل آثاره في النساء أبلغ وأعظم، وهو عند العذارى منهن أوفر ما يكون عند البشر، خاصة البالغات منهن كما دلَّ على ذلك العديد من الدراسات الميدانية التي تكاد تجمع على هذا؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن الحياء وسيلتهن للسمو بالغريزة، بحيث يكون حارساً على سلوكهن الخلقي، "فالمرأة متى خلعت ثوب الحياء فكأنها تنازلت عن سلوك سبيل العفاف والصون، حيث إن خلع ثوب الحياء منها علامة قوية على نيَّة خدش الأمانة التي يترتب عليها من العواقب الوخيمة ما لا نهاية له"، فهي إن أكثرت من الدخول والخروج، والاحتكاك بالأجانب: قل حياؤها، فكانت أقرب للوقوع في الخطأ، في حين أنها ما دامت ضمن ستر الحياء كانت في مأمن من الرفث والفواحش؛ لهذا مُدح في النساء الضعف والجبن، وعُدا من الفضائل فيهن، في حين ذُمَّ فيهن الشجاعة والسخاء؛ لما فيهما من الوقاحة والإسراف، وفي هذا يقول القلقشندي: "المرأة إذا جبُنت كفت عن المساوي خوفاً على نفسها وعرضها، وإذا بخلت حفظت مال زوجها عن الضياع والإتلاف"، فرغم أن أصول هذه الصفات مشتركة بين الجنسين إلا أن درجة حدَّتها تختلف حسب الجنس، وطبيعة الوظيفة، ونوع السلوك الاجتماعي المطلوب من كل جنس، ولهذا يلاحظ أن المجتمع أكثر تقبلاً لخجل الإناث من تقبله لخجل الذكور.

وامتداح خلق الحياء جاء من جهة آثاره السلوكية في حياة المسلم؛ إذ يحجز صاحبه عن ارتكاب القبائح، والسقوط في الرذائل، فهو رادع عن كل قبيح، فمن لاحظ جانب العباد استحيا منهم، ومن لاحظ جنب الله استحيا منه، ومن لاحظ الجانبين أعطى كل واحد منهما حقه من الحياء، ومن طرح الحياء صنع ما يشاء من القبائح والسيئات، وفي الحديث:(…. إذا لم تستحي فاصنع ما شئت), فمن هنا كان خيراً كُلّه فلا قيمة لهذا الخلق عند الفتاة دون مظاهره السلوكية من : الخَفَرِ، والإشفاق، والتحفُّظ الذي ألمح إليه المولى U في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع المرأتين، حيث جاءت إحداهما تمشي على استحياء، فتمثلت بحيائها سلوك الخائف الوجل مما قد يُنسب إليه مما يُكره، أو يذم به، فاختارت الوجيز من الكلام، والخطو على أعقاب الرجل، دون استعراض مثير.

ورغم أن الحياء في سلوك الفتاة أساس الفضيلة عندها، ودليل صادق على إحساسها بقيمة ذاتها، فقد اعتبره بعضهم: من السلبيات التي يُذم بها النساء، ومن مؤثرات سيطرة المجتمع الذكوري على مقدراتهن، وأخلاقهن السلوكية، حتى إن البعض: أرجع سبب ظاهرة الاستحياء في سلوك المرأة إلى عقدة "الإخصاء" التي تتضمن – كما هو مذهب مدرسة التحليل النفسي – الشعور بالنقص لفقدان عضو الذكورة التناسلي؛ مما يسوق المرأة – حسب زعمهم- للشعور بالدونية أمام الذكور، فتسلك نهج المُنْكسر المستحي. وكأن هذه الآلات – منفردة – تُعطي الإنسان صفاته الخلقية والسلوكية دون أن يكون للجوانب: الروحية والنفسية والعقلية، والطبيعة الفطرية أدوارها الأساسية في تكوين السلوك الخلقي، وقد قيل في الحكم: "امرأة بلا حياء كطعام بلا ملح"، بمعنى أن مسلك الحياء جزء أصيل في تكوين الأنثى الخلقي، وضرورة لها، وليس هو مجرد سلوك خلقي مفتعل تتلبس به المرأة ضمن ظروف اجتماعية أو نفسية، لا علاقة لها بطبيعتها الفطرية.

ولقد أدى هذا الفهم الشاذ لطبيعة سلوك الخجل عند المرأة: إلى تكوين تجمعات نسائية، وحركات تحررية تسعى إلى إحياء خلق الجراءة عند الفتيات، ونبذ سلوك الاستحياء ومَفْتِه، ضمن ثورة جنسية تسوِّي بين الذكور والإناث في سلوك واحد متشابه، حتى ظهرت بعض طبقات من الفتيات تفوّقن على أقرانهن من الذكور في جوانب من الجراءة والاستقلالية، إلا أن الواقع المعاصر لم يحقق للمرأة المتحررة من قيود الأدب والحياء: سوى مزيد من التعاسة والاستغلال ممن وسَمْنَهُ بالمجتمع الذكوري، الذي نادت – في أول الأمر – بالتحرر من قيوده.

والذي ينبغي أن تدركه الفتاة المسلمة: أن تجرد المرأة من مسلك الاستحياء اللازم للأنوثة يوحي بانقلاب الموازين البشرية، وظهور أجيال جديدة تتشابه فيها أدوار الجنسين في الحياة، وتختلط فيها مظاهر الرجولة بالأنوثة، وربما تداخلت فيها الطبائع الفطرية الأساسية، حتى يتمكن كل جنس- بصورة كبيرة – من تمثيل الجنس الآخر في أخلاقه وسلوكه، وعندها تكون البشرية قد وصلت إلى أردأ مهاوي الإنسانية، وفقدت أهم أسباب البقاء والاستمرار.