إن استشعار الإنسان فضل الله تعالى، ونعمه الكثيرة، مع العجز عن الشكر، وكثرة التقصير: يوجب إثارة خلق الحياء، "ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده، يحمد عليه حمد شكر، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمداً يستحقه لذاته".
والله I متفضِّل على عبيده بأن خلقهم من العدم وليس واجباً عليه، ومتفضِّل عليهم بالهداية إلى سبيله كما قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] بمعنى أنه -جلَّ وعلا- بيَّن لهم طريق الخير وطريق الشر، ومتفضِّل عليهم أيضاً بالتسخير الكوني العام، كما قال I : {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وباطنة…} [لقمان:20].
وهو أيضاً I متفضِّل عليهم بالتسخير على التفصيل، كتسخير البهائم، وإنبات النبات، وجريان الماء، وطيب الهواء ونحوها؛ إذ لا يتصور أن تجري هذه الأقدار بمصالح الإنسان من عند نفسها دون مُحرِّك لها ومُقدِّر، يقول U : {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل:5]، إلى أن قال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:10-14].
فهذه النعم المتنوعة، بأصنافها المختلفة يعلم الإنسان يقيناً أنه عاجز عن تسخيرها لنفسه فضلاً عن أن يُوجدها، فلولا رحمة الله وفضله لما وُجدت، فهذا الاستشعار لنعم الله الكثيرة يثير في النفس حياءً، ورغبة في الشكر، تدفع نحو امتثال الأوامر، واجتناب النواهي؛ فإنهما أعظم أساليب الشكر، كما قال تعالى موجِّهاً آل داود: {…. اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ….} [سبأ:13]، يعني: "اشكروا شكراً بعملكم، أو اعملوا عمل شكرٍ"، فالعمل من العبد شكرٌ لله تعالى، فيكون الشكر بالعمل، لا باللسان فقط، وحقيقته أن يتوجَّه المكلف بالنعم إلى الله تعالى ويصرفها في مرضاته وطاعته.