10ـ حول حجاب المرأة السعودية

يكثر الحديث حول حدود حجاب المرأة المسلمة عند الأجانب من الرجال، حيث يحتدم الصراع حول هذه المسألة، والأصل -كما هو معلوم- في مسائل الخلاف الفقهي الأخذ بالراجح من الأقوال وليس الأصل فيها التخيُّر بين الأقوال، وإنما عُذر الجاهل الذي يتعذر عليه الاجتهاد بأخذه القول المرجوح لأنه مذهب مفتيه، فهو معذور حين يقلِّد من يرى أنه أعلم وأفضل حتى وإن كان قوله خطأ، فلا يصح - والحالة هذه- لغير  المتخصص القادر أن يدخل على المسائل الفقهية عبر الحاسب الآلي، وشبكات الإنترنت - بعد أن تيسر الأمر في ذلك وكان في السابق عسيراً إلا على المتخصصين- ليتخيَّر من الأقوال الفقهية ما شاء، ثم يعرضها على الناس عبر وسائل الإعلام، ويحاج بها العلماء المتخصصين، وكأنه واحد منهم، دون احترام للتخصص.

إن المسائل الفقهية المدونة في كتب الفقه والتراث الإسلامي تشبه - إن صح التشبيه - الصيدلية، فلا يكفي المريض المثقف أن يعرف خصائص الأدوية المنشورة وتراكيبها ليختار لنفسه، وإنما يحتاج للطبيب يرشده ويعينه، وكذلك حال غير المتخصص الشرعي مع الكتب الشرعية، فلا يكفيه الاطلاع على المسائل العلمية عبر الموسوعات الميسرة، والأقراص المدمجة حتى يرجع بالمسائل إلى أهل العلم القادرين على الاختيار والترجيح.

ويطرح بعضهم قضية جواز كشف وجه المرأة في الصحف السعودية، على أنه قول صحيح، وربما على أنه القول الراجح، والناظر يتعجب لماذا هذا الطرح العام، أليس من الأدب الاجتماعي الانسجام مع الفتوى الشرعية في البلاد، والمخالفة تكون بصورة فردية لمن كان يرى غير ذلك.

          ومع أن العلماء اختلفوا في جواز كشف المرأة عن وجهها أمام الأجانب من الرجال إلا أنهم اتفقوا على أنه فضيلة، فهل يكون من المنطق الشرعي أو العقلي حثَّ الناس على ترك الفضيلة، فلو أن شخصاً هوَّن من نوافل الصلاة عند الحريص عليها لعدَّه الناس آثماً، فلماذا يهوِّن بعضهم من فضيلة غطاء وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب ؟.

          ولا يبرر لهم حديثهم هذا عن بيان جواز الكشف كون علماء البلاد وأهل الفتوى فيها يصرِّحون بالوجوب، فإن التحريض على الأخذ بالعزيمة ممدوح، في حين أن التحريض على الأخذ بالرخصة مذموم، لاسيما في مسائل الخلاف الفقهي؛ فإن القواعد الفقهية تنص على الأخذ بالأحوط، والخروج من الخلاف إلى السلامة ونحو ذلك.

  ثم أليس من الأولى أن نشتغل بإقناع النساء المتبرجات - وهن كثير - بالتزام الحدِّ الأدنى - على الأقل - من الحجاب الذي أمرهن الله تعالى به بدلاً من إقناع النساء المتنقِّبات - وهن قليل - بجواز كشف وجوههن للرجال الأجانب ؟.

  ولئن رافق نزع الحجاب في بعض المجتمعات العربية شيء من العنف والتظاهر والمغالبة : فإن نزع الحجاب في البيئة السعودية يتخذ طابع التدرج والمهادنة والموادعة، حيث يتخذ جمع من النساء مسألة الخلاف في جواز كشف الوجه ذريعة للتبرج والسفور عن المساحيق الملونة ، مع كشف شيء من الشعر والأطراف وإبداء الزينة ، إضافة إلى ارتداء العباءآت الشفافة والمزخرفة ، التي لا تكاد تستر شيئاً من الملابس الفاتنة أو الفاضحة التي يرتديها بعض الفتيات في الحياة العامة .

  ومع الاحترام والتقدير لجميع العلماء من السلف والخلف ممن ذهب إلى جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها فإن النص القرآني يحيل إبداء الزينة إلى الزينة نفسها حين تبدو من غير قصد: "إلا ما ظهر منها"، والمرأة حين تتعمد كشف وجهها لا يكون المعنى "ما ظهر منها"، وإنما يكون: "ما أُظهر منها"، فتأمل هذا.

  ثم إن الخمار الذي أُمرت به المرأة هو ما تضعه على رأسها، والجيب الذي أُمرت بتغطيته هو فتحة الصدر، وموقع وجه المرأة بين طرفين متفق على وجوب تغطيتهما، فكيف يمكن للمرأة أن تسدل خمارها من على رأسها لتستر صدرها دون أن تغطي وجهها، ومن المعلوم أن السدل هو أسلوب استخدام الخمار وليس اللف حول العنق الذي يصنعه كثير من النساء, والمسألة من هذه الجهة تحتاج إلى تأمل.

ومن المعلوم من حال الطبائع الاجتماعية أن الانحرافات الأخلاقية تبدأ يسيرة , وربما تبدأ بمسألة فقهية خلافية مثل كشف وجه المرأة وكفيها أمام الرجال الأجانب، ولكنها بالتدريج السريع تنتهي إلى ما لا قبل للمجتمع به من الانحرافات الخطيرة الكبرى التي يصعب معها الإصلاح، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالاحتياط والأخذ بالأسلم، وسد الذرائع، رغبة في دفع ما  يُتوقع من المفاسد الكبرى.

ومن المفارقات العجيبة أن الفاصل الزمني بين كشف المرأة عن وجهها في بداية القرن العشرين في إحدى الدول العربية وبين كشفها بعد ذلك عما أجمع العلماء على حرمة كشفه من الشعور والنحور والأفخاذ لا يزيد عن خمسين عاماً تقريباً، فما لبثت المرأة طويلاً بعد كشفها عن وجهها أمام الأجانب حتى كشفت عن غالب بدنها في البلاجات, وعلى خشبات المسارح، وفي الملاهي الليلية.

إن بعض المسائل الفقهية التي دونها العلماء بقيت حبيسة الكتب لا واقع لها ولا تطبيق, فكم من المسائل الفقهية التي ينص عليها المذهب ومع ذلك يكون العمل على غيرها, وهذا - إلى حد كبير - ينطبق في مسألة غطاء وجه المرأة , فعلى الرغم من ورود جمع من النصوص المذهبية على جواز كشفه إلا أن الواقع التطبيقي عبر العصور وفي مختلف البلدان يخالف ذلك إلى الأحوط والفضيلة، لا سيما وقد أجمع العلماء على وجوب التغطية زمن كثرة الفتن، وانتشار الفساق, وبخاصة في حق الفتاة الشابة، والمرأة الحسناء.

ومما يُنقل في هذا المجال ما ذكره الإمام ابن حجر في الفتح
12/245، وهو شافعي المذهب حيث يقول:"ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته وابنته"، وهذا يدل على أن المذهب الفقهي قضية، والواقع التطبيقي قضية أخرى، ولهذا كان غطاء الوجه للنساء عاماً في الأمة، عبر قرونها المختلفة حتى بداية القرن العشرين الميلادي عند ظهور الدعوة المشبوهة لتحرير المرأة والتي لم يكن لها غاية في بداية الأمر أكثر من المطالبة بالتعليم الرسمي وإقناع المجتمع بجواز كشف وجه المرأة، حين كان غطاء الوجه عاماً في النساء.

إن مما ينبغي أن تدركه المرأة المسلمة عموماً والمرأة السعودية على الخصوص أن تقيدها بالحجاب الشرعي يحقق لها على الأقل فائدتين ، الأولى : انسجامها مع المطلب الشرعي حين أطاعت ربها ، والثانية : أن التزامها بالحجاب صورة من صور التحرر من نموذج المرأة الغربية ، التي فرضت نفسها على نساء العالم ، ولا تزال المجتمعات الإسلامية - في العموم - تفضل وتحترم المرأة المحجبة ، حيث يفضلها الرجل للزواج، وتفضلها الزميلة للصداقة ، وذلك على الرغم من الحملات المسعورة لتشويه المحجبات، وإضعاف مصداقية الحجاب ودوره الإيجابي في حياة المرأة المسلمة.