14ـ توجيه الطفل إلى التفكر في الكون

لقد بث الله سبحانه وتعالى في هذا الكون من الآيات الباهرات الدالة عليه سبحانه وتعالى ما يعجز العقل البشري على أن يحصى عددها، أو يحيط بجملتها. وقد وجه الله عز وجل عباده إلى التفكر والتدبر في هذه الآيات العظيمة، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]، ويقول سبحانه وتعالى آمراً الناس بالنظر في الكون بعين التفكر والتبصر: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، في هذا التوجيه العظيم "يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق الله في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السماوات من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر والليل والنهار"، فهذه الآيات والآثار هي الطريق الصحيح بعد القرآن والسنة لمعرفة الله عز وجل، وإدراك عظمته وقدرته، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا من خلال العقل والفكر والعلم؛ إذ بها جميعاً يدرك الإنسان الخالق جل جلاله، فوجود الحكمة في المخلوقات، دليل على أن الذي خلقها حكيم، كما أن وجود الإعجاز فيها دليل على أن الذي أوجدها قادر، وهكذا يجد المتفكر المتبصر، يد الله عز وجل، ولطفه، وعظمته، قد ارتسمت على كل شيء خلقه وأوجده في هذا الكون، من الأجرام السماوية العظيمة، إلى الميكروبات الصغيرة الدقيقة، كل ذلك لله فيه حكمة وإبداع.

إن إشعار الولد بهذا الإبداع، وهذا الجمال في مخلوقات الله، له أثر بالغ في نفسه وقلبه، إذ "يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات، وزاد من الاستجابات والتأثرات، وزاد من سعة الشعور بالوجود، وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.. وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله وبجلال الله، وبتدبير الله، وبسلطان الله، وبحكمة الله، وعلم الله".

والأب يتخذ من الوسائل المناسبة ما يقرب إلى ذهن ولده هذه التصورات، وهذا الأسلوب الأمثل في النظر إلى الكون، لئلا يكون نظر الولد نظراً سطحياً بعيداً عن التأمل والتدبر، بل يكون نظره نظر اعتبار واستمتاع بهذا الوجود العجيب، فإن "الاستمتاع بجمال الكون، جزء أصيل مقصود في التربية الإسلامية لما له من آثار في النفس"، فمن الفوائد النظر إلى السماء وآثاره النفسية، أنه يذهب الخوف والوسواس، ويذكر بالله عز وجل ويوقع في النفس تعظيمه وإجلاله، ويزيل الأفكار الرديئة من الذهن، وينقص الهم.

ومن الوسائل التي يمكن أن يتخذها الأب في هذا المجال، إعطاء الولد فرصة مناسبة للنظر في السماء، خاصة في الأوقات التي يكثر فيها ظهور النجوم، في الليالي غير المقمرة، ويكون ذلك من خلال الخروج للنزهة مساء، فيخرج الأب مع أولاده إلى الصحراء القريبة، أو في مكان خارج المدينة، حيث الهدوء والسكينة، أو على الأقل على سطح المنزل، كما يمكن اصطحاب المنظار المقرب ذي العدسات التي يمكن أن تقرب البعيد، فيوجهها الأب إلى بعض تلك الأجرام السماوية البعيدة، ويعطي الولد فرصة للنظر والتأمل.

وللخلوة في الخلاء آثار نفسية طيبة إذ يمكن من خلالها تحقيق هذا النوع من التربية الجمالية بالنظر إلى الكون الفسيح. ويمكن للأب تخصيص بعض الوقت لتحقيق ذلك في نهاية الأسبوع مرة أو مرتين في الشهر. على أن يكون الخروج للمبيت، ليتحقق الهدف من هذا الخروج، وتطول مدة الاستمتاع، ويتوفر المجال المناسب للتحدث والتسامر.

ولا بأس أن يقضى بعض الوقت في المساء على سطح المنزل إن كان الخروج بصفة مستمرة إلى الخلاء متعذراً.

ويمكن للأب أيضاً إفادة أولاده بالجانب النظري في هذا الموضوع، وذلك من خلال تزويدهم بالمنشورات، والكتب المصورة، عن عجائب الكون الفسيح وغرائبه، وعظم أجرام السماء من النجوم والكواكب، وبعض العجائب التي دونها علماء الفلك، ويكون الجانب التطبيقي هو الخروج بالأولاد في هذه النزهة المسائية الجميلة، ويحاول الأب من خلال حديثه إلى الأولاد، إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، مشيراً دائماً إلى قدرته العظيمة، وجميل صنعه، وإبداعه في هذا الكون، فعند استعراضه وشرحه لعجائب خلق الله في أجرام السماء، وضخامتها، يبين لطف الله ورحمته بأن نظم لهذه الأجرام سيرها، فلا تحيد عنه ولا تخطئه، ولولا ذلك اللطف والرحمة منه، لاصطدمت ببعضها البعض، ولهلك الناس، وزالت معالم الدنيا.

وينتقل الأب مع أولاده من الكون الفسيح وعجائبه، إلى عجائب مخلوقات الله في الأرض، من حيوانات وحشرات وغيرها، مستعيناً في ذلك بالكتب العلمية المهتمة بهذا الجانب، ومستفيداً من كتابات ابن القيم - رحمه الله تعالى- في هذا المجال في كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة"، فقد دون فيه كثيراً من عجائب صنع الله عز وجل في الكون، والإنسان، والحيوانات، والحشرات، فإذا راجعه الأب وجد مجالاً خصباً، ومعلومات جيدة، يمكنه شرحها للأولاد والاستفادة منها.

ويحاول الأب أن يظهر في استعراضه لهذه المخلوقات، فضل الله، ونعمته، وحكمته، في كل شيء من خلقه، فيظهر ذلك في خلق الإنسان وهيئته، وتركيب جسمه، وما في ذلك من العجائب، وفي خلق الدواب من الحيوانات والحشرات، في أجسامها، ومعاشها، وغير ذلك.

ففي الحشرات مثلاً يمكن أن يظهر الأب عجائب قدرة الله عز وجل من خلال استعمال جهاز المجهر المكبر، فيضع فيه شرائح من الحشرات، ويترك الأولاد ينظرون إلى تلك الأجزاء بعدما كبرت، فيرون أشياء عجيبة، لا يمكن أن ترى بالعين المجردة، فيقع في أنفسهم ذلك التدبر، والتفكر، كما أن هذه المناظر التي رأوها لا يمكن أن ينسوها، بل تدفعهم إلى المزيد من الاطلاع والبحث في هذا الجانب، إذ إن الطفل شغوف بالجديد، محب للاطلاع والاكتشاف بطبعه.

ويترك الأب لأولاده العنان في التفكير والنظر في هذه العجائب، والغرائب من المخلوقات، في كل شيء خلقه الله عز وجل، ملاحظاً عدم تعرضهم إلى عالم الغيب بشيء من التكييف، أو التشبيه، أو التمثيل، ويبين لهم أن "العقل لا يستطيع أن يحكم، ولا يصح حكمه إلا في الأمور المادية المحدودة. أما ما وراءها أي عالم الغيب، فلا حكم للعقل عليه". ويوضح لهم أن هذا من وساوس الشيطان ومكره بالإنسان، وأن النهي قد ورد عن رسول الله r بعدم الاسترسال مع هذا النوع من الوساوس فقال:( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته).  وهذه المسألة يتنبه لها الأب ويحذر منها الأولاد.