6 - إدراك الطفل لعبودية الجمادات
للجماد إدراك خاص به، فهو عابد لله تعالى، يسبحه ويمجده كما هو الحال مع الحيوان، ولكن إمكانية قبول ذلك وسريانه على الحيوان أقرب وأسهل من التسليم به للجماد عند ضعاف الإيمان، والمسلم يؤمن بكل هذا ما دام أنه وارد عن الله U، وعن رسول الله r، ولا يحتاج إلى إثباته مخبرياً، بل يكفيه الدليل الشرعي، كما تقدم. فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز مشيراً إلى اشتراك الجماد والحيوان في التسبيح له والتمجيد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41]، وقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الاسراء:44].
فالكل منهمك منشغل بالتسبيح لله U، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أن الصحفة تستغفر لمن يلعقها ولا يذر فيها شيئاً من الطعام، كما ورد عنه أنه قال: ((ويغفر الله للمؤذن مد صوته ويشهد له كل رطب ويابس سمع صوته))، ونقل عنه أيضاً أن حجراً بمكة كان يسلم عليه قبل أن يُبعث، كما أنه أمر مرة شجرة أن تأتيه إلى مكانه فجاءت وسلَّمت عليه، ثم أمرها أن تعود فعادت، ونقل عنه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، قال عليه الصلاة والسلام: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت يوم كذا كذا وكذا، فهذه أخبارها))، وقد نقل عنه في هذا المجال الغيبي ما هو كثير مستفيض. والمقصود هو أن يعرف الأب أن قضية إدراك الجماد قضية واقعة في الدين، وإن نقلها إلى الولد وإشعاره بها، وجعله يعيش ذلك الجو الممتليء بالتسبيح والتهليل، له بالغ الأثر في نفسه وكيانه لما يوقعه من الأنس والاطمئنان. ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه القضية، واصفاً شعور المسلم واستحضاره هذه المسألة فيقول: ((إنه لمشهد كوني فريد، حين يتصور القلب، كل حصاة، وكل حجر، وكل حبة، وكل ورقة … كل حشرة، وكل زاحفة، كل حيوان، كل إنسان، وكل دابة على الأرض، وكل سابحة في الماء والهواء … ومعها سكان السماء.. كلها تسبح لله وتتوجه إليه في علاه … إن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه، ومما لا يراه، كلما همت يده أن تلمس شيئاً، … سمعه يسبح لله، وينبض بالحياة)).
إن هذا التعليق الذي ذكره سيد قطب رحمه الله من استشعار تلك الحياة في كل شيء مما حولنا، وانشغال الدواب والجماد - على حد سواء - بالتسبيح والتمجيد لله U، إن هذا الاستشعار بهذا الوصف العميق ينبغي أن ينقل إلى قلب الولد، ويستقر فيه، ويعيشه وقتاً من الزمن، مستحضراً ومستشعراً تلك الحياة العجيبة التي تحياها هذه الجمادات، فإنه بهذا الشعور بالأنس والاطمئنان لكل ما حوله فلا يخاف من ذلك شيئاً.
إن الطفل يمكن أن يصدق بهذه الحقائق الكونية خاصة الطفل الصغير، فإن خياله فياض، ولديه قدرة بالغة على التصديق بأكثر من هذا، فإن الخيال يشغل جزءاً كبيراً من نشاطه العقلي، فهو الذي يمتطي العصا ويقول إنها الفرس، وهو الذي يصارع الأسد فيصرعه ويغلبه، وهو الذي يعتقد أنه يمكن أن يطير في الفضاء حيث شاء.
إن هذا الخيال الواسع عند الطفل الصغير يمكن أن يستغل في تثبيت مثل هذه الحقائق الربانية الكونية العظيمة، أما الطفل الكبير الذي ناهز الحلم فالتوجيه المباشر يكفيه. وللأب أن يختار الوسائل، والأساليب المناسبة لإشعار ولده بهذه المعلومات، فيختار أوقات السكون والتأمل، حيث يكون المزاج معتدلاً، والنفس مقبلة على الله، كالأوقات بعد صلاة الفجر، ومع بزوغ الشمس، وعند الخروج للنزهة. يستغل الأب تلك الأوقات المناسبة ليوجه الولد نحو هذا الجلال العظيم مبيناً له أن هذه الجمادات لها إدراكها الخاص تتعبد لله به، كما أنها تعرف الصالحين وتحبهم وتعرف الفاسقين وتبغضهم، فإذا مات المؤمن الصالح بكت عليه السماء والأرض لحبها له لأنه صالح خيِّر، كما أن الأشجار والأحجار تحب الصالحين وتدعو لهم، فهذا رسول الله r ينظر إلى جبل أحد فيقول: ((هذا جبل يحبنا ونحبه))، وتعليقاً على هذا الحديث يقول ابن حجر رحمه الله: ((جبل يحبنا ونحبه قيل هو على الحقيقة، ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق الله المحبة في بعض الجمادات)).
إن دور الأب هام في تأصيل هذه المفاهيم والمعاني في نفس الولد، وتأديبه عليها ليتعامل مع هذه المتغيرات الكونية المختلفة تعاملاً صحيحاً. فإذا عاين الريح أمر بأن لا يسبها أو يكرهها بل يدعو بالدعاء المأثور الوارد في ذلك، وإذا سمع صوت الصواعق أعلم أن هذا من أمر الله، وأن هذه الصواعق والرعد والبرق كلها مخلوقة لله عابدة له مسبحة بحمده لن تضرأحداً إلا بإذنه، ويوجهه للدعاء المأثور في ذلك: ((اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك))، وكذلك إذا رأى من آيات الله في الكون ما يعجبه كالهلال مثلاً فإن الأب يعلمه الدعاء المأثور في ذلك: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله))، فيستشعر الولد بقوله: ((ربي وربك الله)) كأنه يخاطب الهلال وهو الجماد، فيحس أنه يسمعه ويعقل عنه.
وقد كان من سنته عليه الصلاة والسلام إعطاء تلك الجمادات نوعاً من التكريم وكأنها عاقلة مدركة، فقد كان يطلق على بعض أدواته الأسماء مثل ما كان يفعل مع دوابه فأطلق على سيفه اسم " ذو الفقار" وعلى درعه " ذات الفضول "، فلا مانع أن يترك الأب لابنه الفرصة في أن يعامل أغراضه وأملاكه بهذه الطريقة فيسميها بأسماء مناسبة، ويعاملها معاملة العاقل، فإن هذا الأسلوب يقوده إن شاء الله لاستحضار وإدراك الحياة في كل ما حوله، فيتأدب مع كل ذلك. فإن عمل خطأ ذكر بأن الأرض تسمع كلامه وسوف تشهد عليه بأنه أخطأ في يوم كذا وعمل كذا وكذا كما جاء في الحديث المتقدم، فيكون تصوره لهذه الحياة في الجمادات مدعاة لتأدبه وتخلقه بالأخلاق الحسنة خجلاً من إدراكها لقبح عمله.
وقضية أخيرة ينبغي ملاحظتها وهي ما يفعله بعض الناس عندما يصطدم الطفل مثلاً بكرسي أو مائدة في المنزل أو نحو ذلك، فيُلام الكرسي أو المائدة، وربما قام الأب يضرب ذلك الكرسي ويشتمه لأنه أزعج الطفل وآلمه، إن هذه القضية خطأ لا ينبغي الوقوع فيه وتعويد الطفل عليه؛ فقد ينشأ الطفل لوَّاماً لكل ما حوله ومن معه، يحمِّلهم أخطاءه، إلى جانب أن هذا الفعل فيه إيحاء للطفل بكره البيئة من حوله، فما يقوم الأب من تحبيب البيئة إلى نفس الولد وإشعاره بحبها له يمكن أن يزول بسبب تكرار مثل تلك المتعة الروحية عنده فيصبح مبغضاً لما حوله. ولا ينبغي للمسلم أن يتخذ البيئة من حوله عدواً له، فالعلاقة بين المسلم والكون المحيط به علاقة انسجام ووئام، لا علاقة صراع وعداوة.