28ـ موقف التربية الإسلامية من الحداء والإنشاد

 

 

28 - موقف التربية الإسلامية من الحداء والإنشاد

وكما جاء الإسلام بتحريم الغناء الفاحش المشتمل على قبيح القول، وآلات اللهو والمزامير، فقد جاء - في الجانب الآخر - بإباحة الحداء، وهو: "غناء الركبان المسمى بالنصب وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط"، فقد أقر الرسول r هذا النوع من التغني؛ لما فيه من النشاط وبعث الهمة، فأقر حداء عامر بن الأكوع t وقد كان شاعراً وكان له عليه الصلاة والسلام "حاد حسن الصوت".

وقد حث عليه الصلاة والسلام على هذا النوع من اللهو المباح في الأفراح فقال: "فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت" ففي ضرب الدف إعلان بالنكاح، والمقصود بالصوت هو الغناء المباح الذي لا فحش فيه وهو النوع الذي أقره الرسول r في حديث الجاريتين، حيث كانتا تغنيان، وتضربان بالدف عند عائشة -رضي الله عنها- في العيد من أيام منى.

ونقل عن عمر بن الخطاب t المشهور بشدته وصلابته في الحق إقراره أيام خلافته الترنم والتغني بالشعر في السفر حيث قال: "الغناء من زاد الراكب" وقال عطاء رحمه الله في الغناء بالشعر: "لا أرى به بأساً ما لم يكن فحشاً" وقال العز بن عبد السلام رحمه الله: "أما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به، بل يندب عند الفتور وسآمة القلب".

فالغناء الذي لا يهيج النفوس على الشر، ولا غزل فيه، ولا تحريض على الفواحش والمنكرات، بل فيه إثارة على الشجاعة، والإقدام: فهو مباح لا خلاف فيه، فقد فعله الصحابة عند رسول الله r ولم ينكر عليهم، وهو ما يسمى الحداء.

ورغم الإجماع من الصحابة وغيرهم على إباحة هذا النوع من اللهو البريء، إلا أن بعض العلماء منع منه، فذهب بعضهم إلى تحريمه، وآخرون إلى كراهته، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله خلاف الأئمة في ذلك.

ولعل ذلك يرجع إلى احتياطهم رحمهم الله في سد الذرائع المفضية إلى المحرمات، وخشية من أن يتخذ أهل الأهواء هذه النصوص ذريعة لتعاطي الغناء الفاحش المشتمل على المعازف والملاهي، أو أن سبب هذا المنع يرجع إلى اعتمادهم على بعض النصوص العامة التي جاءت عن بعض الصحابة وغيرهم في ذم الغناء عموماً دون ذكرهم تفصيلاً في ذلك.

ولكن عند جمع هذه النصوص، وضم بعضها إلى بعض -كما تقدم- يظهر أن من ذهب إلى تحريمه كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما في تفسير الآية فإن المقصود هنا هو الغناء المشتمل على الخنا والفحش والمعازف لما فيه من الإضلال عن سبيل الله U، ومن ذهب إلى إباحته كعمر بن الخطاب وعطاء وغيرهما، فإن المقصود هنا هو الغناء المشتمل على المعاني الحسنة، المحرك للخير، المحمس على الفضائل، المذهب للملل والسآمة.

وكما تقدم من أقوال الصحابة وغيرهم فإن كلمة "غناء" يمكن أن تطلق على المحرم منه، والمباح إنما الذي يفرق بينهما هو المضمون، والغناء عند العرب معناه: رفع الصوت وموالاته فلا يقصد به اشتماله على محرم كما أن الحداء الذي أجمع على إباحته يقصد به الغناء للإبل واليوم إذا أطلق الغناء قصد به الفاحش منه والمحرم لغلبة هذا النوع على غيره وتستعمل لفظة "الأناشيد الإسلامية" على ما يقصد به الحداء.

والمقصود هو المضمون والمدلول، وليس مجرد الأسماء، فأي لهو اشتمل على المعازف، أو فاحش القول فهو محرم وإن سُمِّي بأي اسم كالغناء أو الحداء، أو الإنشاد أو الفن أو غير ذلك من المسميات، وكل لهو خلا من المعازف وفاحش القول، وتضمن المعاني الطيبة، المشجعة على الخير والفضائل، فهو مباح وإن تسمى بالغناء، أو الحداء، أو الإنشاد.

والنفوس تميل في العادة إلى السماع طلباً للراحة، وطرداً للملل والسآمة لهذا أبيح شيء من هذا اللهو. والأطفال الصغار أكثر رغبة وميلاً إلى اللهو والغناء، فقد أشارت السيدة عائشة -رضي الله عنها- إلى ذلك في قصة رؤيتها - وهي صغيرة - للحبشة وهم يلعبون في المسجد حيث قالت: ((فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن))، ويشرح الإمام النووي رحمه الله مقصودها في هذه الرواية فيقول: "معناه أنها تحب اللهو والتفرج والنظر إلى اللعب حباً بليغاً وتحرص على إدامته ما أمكنها ولا تمل ذلك إلا بعذر من تطويل، وقولها فاقدروا.. أي قدروا رغبتنا في ذلك إلى أن تنتهي، وقولها العربة.. معناها المشتهية للعب المحبة له"، وهذه إشارة تربوية حسنة من السيدة عائشة -رضي الله عنها- تبين طبيعة الطفل، وشدة رغبته وميله إلى اللهو، كما أن في إشارتها هذه توجيهاً للمربين بمراعاة ذلك في منهج التربية، وعدم التطرف والتشدد فيما لا يشرع فيه التشدد كهذ1 النوع من اللهو المباح.

وهذا الميل يبدأ عند الأطفال منذ ولادتهم، فيستمتعون بالأناشيد والأغاني، "ويمكن لنا النفاذ إلى مشاعر الأطفال وعقولهم عن طريق الأغاني والأناشيد فنغرس في نفوسهم من القيم وندفع إليهم من المعلومات ما يتناسب وكل سن".

فيمكن للأب تزويد ولده بأشرطة الأناشيد الإسلامية التي تصدرها بعض الهيئات الإسلامية في العالم العربي ليستغنى بها عن الغناء المحرم.

كما يمكن تزويده ببعض كتب الأناشيد المخصصة للأطفال مثل: "دعاء الخير وأناشيد البر للطفل المسلم" لمحمد إبراهيم سليم، وأناشيد "فتية الحق" أو غيرها من كتب الأناشيد ولا بأس بتعليمه حفظ الشعر الجميل المشتمل على الفضائل والمحاسن إن وجد الأب ميل الولد إليه، فإن إنشاد الشعر مباح، أقره الرسول r وأمر به حسان بن ثابت ويصف جابر بن سمرة t بعض أحوال الصحابة عند رسول الله r فيقول: "جالست النبي r أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما تبسم معهم"، فالشعر الحسن مباح، إنما لا ينبغي الإكثار منه لئلا يلهي عن القرآن فيكون بذلك ممقوتاً مذموماً. وهذا منطبق أيضاً على الأناشيد الإسلامية فلا ينبغي الإكثار منها، بل لابد من الاعتدال والتوسط.