19 - مساعدة الطفل على تجاوز مخاوفه
الخوف كغيره من الأحوال التي يتلبَّس بها الإنسان في حياته فمنه ما هو محمود مرغوب فيه، ومنه ما هو مذموم منهي عنه، ومنه ما هو طبيعي فطري، فالخوف المحمود هو الذي يحجب صاحبه، ويمنعه عن محارم الله وتعدي حدوده، دون أن يصل إلى حد القنوط واليأس من رحمة الله، وهذا النوع من الخوف جاء القرآن بالأمر به والحث عليه، فقال الله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال أيضاً: {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، وامتدح الخائفين منه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، فهذا الخوف الذي يحول بين المرء وعذاب الله وغضبه هو الخوف المحمود الذي أُمر به الناس أجمعون، وهو من أسباب الفوز والنجاة يوم القيامة، فقد روى ابن ماجه في سننه أن رسول الله r دخل على شاب عند الموت، فقال له: ((كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله r: لا يجتمعان في قلب عبد، في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف))، فهذا الخوف الذي يعمل الوالد على تركيزه في نفس ولده منذ صباه، وينميه مستعيناً بمنهج التربية الإسلامية في ذلك.
أما الخوف الممقوت المذموم فهو الخوف من المخلوقات خوفاً يزيدعلى درجة الخوف من الله أو يساويها، حيث يترتب على ذلك اعتقاد أن لهذه المخلوقات قدرات وإمكانات يمكنها من ذات نفسها أن تضر وتؤذي، دون أن يكون لله شأن أو تدخل؛ فإن الله I قد نص في كتابه الحكيم أنه هو المتصرف في عباده كيف يشاء، وأن نواصيهم بيده لا يتقدم أحد ولا يتأخر إلا بإرادته وعلمه، قال الله تعالى: {ما مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:56]، فالخوف من المخلوق إن بلغ هذا المبلغ كان انحرافاً خطيراً، وضلالاً عن الحقيقة، وجهلاً بقدرة الله الكاملة في الكون وتمام سلطانه وقهره لكل شيء.
وهذا الصنف المذموم من الخائفين عابهم الله في كتابه، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فهم يخافون أذى الناس وبطشهم ويساوون ذلك ببطش الله ومقته يوم القيامة، فاستحقوا بذلك المقت والذم.
أما الصنف الثالث وهو الخوف الطبيعي الفطري، وهو ما يحسه الإنسان من خوف بطبيعته وميله نحو الحفاظ على نفسه مما يمكن أن يؤذيه، كأن يخاف من العقرب أن تلدغه، أو من الأفعى أن تنهشه، أو من الرجل الشرير أن يضره أو يؤذيه، ونحو ذلك، فهذه المخاوف وما شابهها هي طبيعية فطرية لا يكاد أحد أن ينفلت من الاتصاف بها، فهذا نبي الله موسى يخاف من بطش آل فرعون، فيقول عنه الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، وعندما ألقى عصاه وصارت حية تسعى، قال له الله I: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طـه:21]، وفي موضع آخر حكى عن موسى u عندما نازل السحرة حيث أتوا بما عندهم من السحر، قال I: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طـه:67]، فهذه مخاوف طبيعية تصدر حتى عن رسول من أولي العزم فضلاً عن إنسان من سائر الناس، فهي أمر طبيعي فطري لا يلام الإنسان عليه. والمقصود: أن هذه المخاوف الناتجة عن اعتقاد حصول ضرر أو أذى، مع الاعتقاد الجازم أن الله هو المتصرف في عباده وأنه قادر على أن يمنع حدوث ذلك الضرر ويرده، فإن هذا الخوف غير مذموم؛ بل هو خوف طبيعي فطري يمكن أن يحدث لأي إنسان من البشر.
ومن خلال هذه المفاهيم فإن الخوف الذي يظهر على الولد الصغير من القطة مثلاً، أو من الشخص الغريب، أو النظر من المكان المرتفع، أو غير ذلك من مخاوف الأطفال، فإنها تكون في نطاق الخوف الطبيعي، الذي يمكن إزالته أو التخفيف منه عن طريق المران والممارسة والتدريب، ولا ينبغي أبدأً للأب أن يقابل ابنه الصغير عند خوفه من شيء ما بالسخرية أو الاستهزاء أو الضحك، فإن الذي يراه الوالد وهْماً يراه الطفل حقيقة، وربما أحس الولد من خلال عدم المبالاة بمخاوفه بفقدان الاطمئنان والاستقرار والواجب على الأب أن يقابل ذلك الخوف بالحنان على الولد واحتضانه وتكوين عاطفة طيبة عنده تجاه ذلك الشيء الذي خاف منه.
فلو كان خوف الولد مثلاً من أحد الأقارب، فإن الوالد يحاول أن يقرن وجود ذلك القريب بشيء من محبوبات الولد، كأن يقدم ذلك القريب للولد شيئاً من الحلوى، أو أن يعيطه لعبة أو هدية صغيرة تناسب سنه، وإن لم يتمكن من هذا ألقى إليه سلسلة مفاتيحه ليلهو بها، فإن الأطفال خاصة الصغار منهم يميلون إلى الألعاب التي تصدر بعض أصوات الخشخشة كالتي يمكن أن تصدر من سلسلة المفاتيح، وبهذا تخف حدة الخوف من الغرباء عند الولد.
أما إن كان خوف الولد من الظلام الذي يعتبر أعظم مظاهر الخوف في الطفولة فإن دور الوالد أن يوجه أهل البيت منذ ولادة الطفل أن يعود النوم في الظلام، وعند كبره يمكن أن يوضع له في غرفته مصباح صغير يضيء له طرفاً من الغرفة، على أن يحاول الأب قدر الإمكان إفهام الولد وإقناعه أن النوم في الظلام ضروري لراحة الجسم وأنفع له.
وعلى الوالد أن يلاحظ ويحذر من كثرة خوف الولد مما حوله من البيئة من اشياء وأشخاص، فإن كثرة مخاوفه تدل على جبنه وهلعه فيعمل قدر الإمكان على تجنيبه ما يؤذيه ويخوفه، كالتخويف بالبعبع، أو الحرامي، أو الغول، أو المدرسة والأستاذ، أو تخويفه من الدم إذا جرح، فإن أهمل الوالد، ذلك نشأ ولده خوافاً عديداً.
كما ينبغي للوالد أن ينبه أهل البيت أن يجنبوا الولد الشعور بالخوف من احتمال السقوط من مكان مرتفع، أو الصراخ أمامه، فإن الطفل يولد مزوداً بكراهية هذه الممارسات والخوف منها. ويتجنب الأب ما اعتاده بعض الناس من قذف الطفل في الهواء ثم التقاطه مرة أخرى، فإن هذا النوع من اللعب يثير في نفس الولد الخوف، إلى جانب احتمال سقوطه على الأرض.
ويضاف إلى هذه المخاوف الحذر مما يمكن أن تحدثه القصص والروايات المرعبة التي تدور أحداثها حول الشياطين والجن ونحو ذلك مما يوقع في نفس الولد الرعب والفزع.
ومن أعظم ما يؤثر في نفوس الأطفال، ويجلب إليها المخاوف المتنوعة، خوف الآباء أنفسهم، وسلوكهم وانفعالاتهم أمام أطفالهم تجاه مخاوفهم الخاصة. فإن كثيراً من المخاوف تنتقل من الآباء إلى الأبناء عن طريق الإيحاء والمشاهدة، فالوالد الذي يخاف الوزغ، أو الصرصور، أو الفأرة، أو غيرها من الحشرات والزواحف المهملة، ويظهر ذلك لأولاده عن قصد أو عن غير قصد، فإن أولاده سوف يخافون ويهابون هذه الحشرات بلا شك، وسوف يكون سلوكهم تجاهها نفس سلوك الوالد أو أشد.
والحل الصحيح لهذه القضية هو أن يزيل الوالد من نفسه هذه المخاوف المتوهمة ويتشجع - ولو أمام الأولاد على الأقل- ويضبط نفسه قدر الإمكان عند مشاهدتها، ويهون ذلك في نفس أولاده، ويأمر أحد الموجودين بقتلها أو طردها، ولو تولى ذلك بنفسه لكان أفضل وأنفع للأولاد، ويكون بذلك قد حماهم من خوف جديد كان يمكن أن يقع في نفوسهم فيتأذون به في حياتهم المستقبلة.