18ـ حفظ الطفل من خلق الكبر

18 - حفظ الطفل من خلق الكبر

يعد الكبر كغيره من الصفات القبيحة التي يتصف بها بعض الناس وذلك لما فيها من التعالي، والشعور بالتميز على الخلق، وقد قال الله تعالى ذاماً المستكبرين: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23]، وفي إبليس الذي عصى الله مستكبراً عن السجود لآدم. قال الله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]، فطرد من رحمة الله وأهبط إلى الأرض بسبب التكبر والاستعلاء، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار))، ففي هذا الحديث تشبيه للعز والكبرياء باللباس، ومعروف أن لباس الإنسان إذا ارتداه لا يشاركه أحد. فكذلك العز والكبرياء إزار الله ورداؤه لا يشاركه فيهما أحد من خلقه، ومن تجرأ كان مصيره مصير إبليس وهو الطرد من رحمة الله عز وجل، إلا أن يتوب توبة نصوحاً.

وحقيقة الكبر على العباد: استعظام النفس، واستحقار الآخرين، والترفع عليهم وعدم الانقياد لهم، واستصغارهم، وعدم الرضا بالمساواة بهم. وهذا لا شك من غفلة الإنسان بحقيقة نفسه، وضعفه، وحقارة أصله، وما يحمله في بطنه من العذرة، ونهايته العفنة في التراب.

وللكبر مظاهر يعرف بها المتكبرون، وأهمها ما وصفهم به رسول الله r عندما سئل عن الرجل يحب أن يظهر في ملبسه بمظهر جميل حسن هل هذا من الكبر؟ فقال: ((لا، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس))، فمن رد الحق على أهله، ولم يسمع منهم فهو المتكبر، وغمط الناس استحقارهم وعدم الاعتداد بهم.

ومن مظاهره المذمومة أيضاً: التبختر في المشية، وذلك لما قد وقع في نفس المتكبر من التميز، والاستعلاء، والاعتقاد بالأفضلية، إما للجاه، أو المال، أو السلطان، أو النسب، أو العلم، أو الجمال، أو غير ذلك.

وهذا المظهر قد ذمه الله عز وجل في كتابه، فقال: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37]، وقال أيضاً: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، أي لا تمل خدك للناس في استكبار واستعلاء عليهم. أما المشي في الأرض مرحاً، فهو: السير في اختيال وقلة مبالاة بالناس، وقد جاء في السنة ذم هذه المشية المختالة حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقى الله وهو عليه غضبان)).

ولما كانت قضية الكبر على هذا النحو من الذم والمقت، فإن تربية الولد منذ حداثة سنه على كرهها، وعدم الاتصاف بها، أمر هام؛ لأنه إن تعود الولد ازدراء الناس، والتكبر على أقرانه، والتعالي عليهم، في صغره فإن هذه الخصلة الممقوتة لن تتركه عند كبره وبلوغه سن التكليف.

ومسؤولية الأب في متابعة ولده ومراقبته ومعرفة أمراض قلبه وعلاجها أن لا يقف عند حدود التعريف بالمرض والتوجيه بالعبارة فقط؛ بل يسلك معه الأسلوب التربوي العملي الذي يستأصل الداء من داخل النفس حتى لا يبقى له أثر يحرمه من دخول الجنة فإن الكبر - وإن قل - يحرم صاحبه الجنة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)). فإذا كان الولد ممن يميل إلى رأيه ولا ينصاع للحق إذا جاء على لسان أقرانه أو إخوته أو أصدقائه، بعد أن يكون قد عقله وفهمه، خاصة إن كان الولد قد تعدى سن العاشرة، فإن الوالد يحذره من هذا السلوك مبيناً أن الله يمقته إن فعله، وأنه من الكبر الذي يحرم صاحبه الجنة، ويلزمه بأن ينصاع للحق، وأن يعلن ذلك أمام أصدقائه، وأنه قد أخطأ برده الحق، ويسوقه إلى ذلك سوقاً ويلح عليه، فإن اعتذر أمامهم، وقبل الحق، كان له درساً عملياً جيداً لا يظن بعده اقترافه لمثله، فإن عاد أعيد معه الدرس حتى يتدرب فلا يعود لمثله أبداً.

والولد الذي يحب أن يتصدر زملاءه، ويكون قائداً لهم دائماً ولا يرضى بغير القيادة، ولا يقبل إلا الصف الأول، والسير أمام الأولاد والأقران، فإنه يدرب على ترك هذا السلوك بضده، فيؤمر بالتزام التوسط في المجلس والسير بين الزملاء أو خلفهم، وأن يقدمهم على نفسه، فإن دعاهم إلى البيت أمر بالقيام على خدمتهم، وقدم لهم بنفسه الطعام والشراب، في تواضع دون كبر، أو إحساس بالتفضل، وأجلسهم في صدر المكان، وإن ظن الولد أنه أفضل من أصحابه وزملائه وإخوته وأنه متميز عنهم، فإن الأب يحاول استئصال هذا الاعتقاد بأن يبين للولد مميزات زملائه وإخوته، وأنهم متفوقون عليه في كذا وكذا، ويعدد بعض هذه المميزات التي اتصف بها زملاؤه وإخوته مدللاً على ذلك بالوقائع المختلفة، كأن يقول له: "أتذكر يوم كذا وكذا كيف أن أخاك سبقك في العدو، وكيف أن ابن الجيران كان أحفظ منك لسورة كذا وكذا"، فيحاول أن يبين له أنه كغيره من إخوته لديه مميزات ولديه نواقص وأن غيره ربما تفوق عليه في بعض صفاته ومميزاته.

ويحذر الأب عند استخدام هذا الأسلوب أن يتعدى حدود الاعتدال في بيان قدرات وطاقات الولد، إذ إن التمادي في استنقاص الولد، والتطرف في هذا الأسلوب ربما ساق الولد إلى الشعور بالنقص، وهذه آفة أخرى تحتاج إلى علاج جديد؛ بل يعطيه من البيان ما يحتاج إليه لتستقيم نفسه، وتعتدل تصرفاته.

كما يمكن للأب أن يوضح للولد المغرور بقوته - مثلاً- أنه ضعيف أمام ابن الجيران، فيعمل لهم لقاء للمصارعة وإظهار القوة، فإن صرع الولد كان له درساً جيداً، يتعلم من خلاله أنه يوجد من هو أقوى منه، فلا يغتر ويفتخر بقوته على أقرانه. وفي هذا الدرس ينبغي أن يكون الأب على يقين من أن ابن الجيران سوف يصرعه ويتغلب عليه، فإن حدث العكس ازداد الولد غروراً إلى غروره ، وكبراً إلى كبره، ولم ينفعه الدرس؛ بل أساء إليه.

وكثيراً ما يخجل الأولاد ويترفعون عن الخدمة، خاصة أطفال الأغنياء، فلا يرى أحدهم حاملاً مشتريات لأهله، أو خارجاً بالنفايات من البيت ليضعها في المكان المخصص في الشارع، بل يوجد في حالة من الترفيه وعدم تحمل المسؤوليات مما يسوقه إلى التعالي والكبر على غيره. وعلاج ذلك يكون أيضاً بضده. فإن كان يتعالى عن نزول السوق والشراء وحمل الحاجيات أمر بذلك ودرب عليه. ولابأس في أن يشارك الناس في البيع والشراء فقد أقر الرسول r عبد الله بن جعفر t على أن يبيع في السوق بيع الصبيان ولم ينكر عليه ذلك، بل دعا له. علماً بأن عبد الله بن جعفر شريف من الأشراف وأبوه ابن عم الرسول r فلم يمنعهم ذلك من الاشتغال بالبيع والشراء كعامة الناس، ولم يستح الرسول r من فعله.

وإذا كان عند الولد إحساس بالترفع عن الفقراء والضعفاء والمساكين أمر بالجلوس معهم في بعض الأوقات ليذهب عنه ما يجده في نفسه من الترفع فيصطحبه الأب في زيارة لأحد الجيران من الفقراء فيجلس عنده بعض الوقت، ويأمر الولد بالجلوس ومحادثة أولاد الجار، فيعتاد الولد ذلك دون خجل أو إحساس بالمهانة. وفي بعض الأحيان يدعو الوالد بعض فقراء الحي وأولادهم على الطعام، ويأمر جميع أولاده بالجلوس معهم وخدمتهم.

وإذا كان عند الولد كثرة مباهاة بنفسه، وإعجاب بها، دون مسوغ، أي أنه لم يأت بأعمال تدفعه إلى هذا العجب، فإن الوالد يحاول أن يكلفه ببعض الأعمال والمهام البسيطة لينجزها، ومن ثم يشكر ويمدح على ذلك وهذه الطريقة ربما خففت من إعجاب الولد بنفسه كذباً وزوراً.

والأطفال الذين يفتخرون على أقرانهم بمميزات خلقية كالجمال، أو الطول، أو القوة، أو فكرية كالذكاء، فإن دور الوالد في علاج هذا هو أن يوضح للولد أن هذه الصفات وغيرها من نعم الله التي أكرمه بها، وليست هي من كسب الولد، فالله I قدرها له في الأزل، وركبها فيه، دون أن يكون للولد أدنى فضل فيها، كما أن من أصيب بعاهة في جسده، أو بلاهة في طبعه، أو غير ذلك هي من أمور القضاء والقدر التي ليس للإنسان فيها دخل، فلا يذم بسببها ولا يستنقص، بل الواجب هو الرضا بما قسم الله، فإن كان المقسوم محبوباً كالذكاء، والقوة والجمال، شكر الله عليه بمزيد من الطاعة والاعتراف بفضله ومنته، والتواضع لمن لم يؤت مثل ذلك، وإن كان المقسوم مكروهاً كالبلاهة أو الفقر أوالضعف وغيرها، فإن الواجب هنا هو اصبر على البلاء واحتمال تبعاته، والرضا بما قسم الله، فهو الحكيم الخبير.

ويسلك الوالد مع ولده هذا الأسلوب مدللاً ومرشداً ومبيناً نعم الله I المتنوعة، وأن الفضل له وحده دون سواه فإذا تيقن الولد بذلك ذهب عنه ما يجده في نفسه من الكبر والتعالي والغطرسة.

ولمزيد من تدريب الولد على التواضع وذم الكبر فإن الوالد يكلفه أحياناً لبس الرديء من الثياب، وأكل الخشن من الطعام، والنوم على الحصير، فلا يحس بالتميز على غيره من الأولاد، ولا يستنكر أو يزدري نعم الله عليه.